ملتقـى اصحابنـا
مرحبا بكل من انضم الينا في منتدانا ومنتداكم واتمنى ان ينال اعجابكم
ملتقـى اصحابنـا
مرحبا بكل من انضم الينا في منتدانا ومنتداكم واتمنى ان ينال اعجابكم
ملتقـى اصحابنـا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ملتقـى اصحابنـا

ملتقـى التعارف والمواضيـع الهادفة
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا

اذهب الى الأسفل 
+2
حنين خالد
ابو عمار
6 مشترك
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4
كاتب الموضوعرسالة
ابو عمار
عضو نشيط
عضو نشيط
ابو عمار


عدد المساهمات : 393
تاريخ التسجيل : 14/12/2010

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 7:09 am


[سورة التوبة (9): الآيات 53 الى 55]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة في التخلف عن القتال، وذكر ما يجول في نفوسهم من كراهتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر - قفى على ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد في هذه الحال طوعا أو كرها لن يتقبلها الله ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه في صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله، فهم إن فعلوا شيئا من أركان الدين فإنما يفعلونه رئاء الناس وخوفا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وأن أموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدنيا والآخرة.

الإيضاح

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فاسِقِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين: أنفقوا من أموالكم ما شئتم في الجهاد أو في غيره من النفقات التي أمر الله بها وحث في شرعه عليها حال الطوع تقية وحفظا للنفس، وكرها وخوفا من العقوبة، فمهما أنفقتم فلن يتقبّل منكم ما دمتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة، لأنكم قوم فاسقون أي خارجون من دائرة الإيمان، والله إنما يتقبل من المؤمنين.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) أي وما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من الهدى والبينات.

(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي ولا يصلون إلا رياء وتقيّة، لا إيمانا بوجوبها، ولا قصدا إلى ثوابها واحتسابا لأجرها، ولا تكميلا لأنفسهم بما شرعه الله لأجلها، لأنهم لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى لا تنشرح لها نفوسهم ولا تنشط لها أبدانهم.

(وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) أي ولا ينفقون أموالهم في مصالح الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لذلك غير طيبة به أنفسهم، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون وهم ليسوا منهم، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا في الدنيا وهو واضح ولا في الآخرة، إذ لا يؤمنون بها.

ولما كان من أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله كثرة المال وطغيان الغنى بين سبحانه سوء عاقبة المال لهم فقال:

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الإعجاب بالشيء السرور به مع الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، والخطاب لكل من سمع القول أو بلغه.

أي فلا تعجبك أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي من أكبر النعم وأجلها، ولا يجولنّ بخاطرك أنهم - وقد حرموا ثوابها في الآخرة - صفا لهم نعيمها في الدنيا، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه:

(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما ينالهم بسببها من التنغيص والحسرة.

أما الأموال فلأنهم يلاقون النّصب والتعب في جمعها واكتسابها، ويلاقون ما هو أشد من ذلك في حفظها وصونها من الهلاك، فالمشغوف بالمال يكون أبدا في تعب الحفظ والصون، وهو مع ذلك لا ينتفع إلا بالقليل منها كما قال عليه الصلاة والسلام « مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ».

وأما الأولاد فإنهم يرون أنهم قد نشئوا في الإسلام واطمأنت به قلوبهم، فهم يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وربما ماتوا في الغزو - فيجزعون أشد الجزع، إذ لا يعتقدون شهادتهم، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأن الاجتماع بهم قريب كما يعتقد المؤمنون.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي ويموتون ويهلكون وهم كافرون، فيعذبون بها في الآخرة إثر ما عذّبوا بها في الدنيا، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 56 الى 57]

وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

تفسير المفردات

الفرق (بالتحريك) الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه، والملجأ: المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به كحصن أو قلعة أو جزيرة في بحر أو قنّة في جبل، والمغارات: واحدها مغارة وهي الكهف في الجبل يغور فيه الإنسان ويستتر والمدّخل (بالتشديد) السرب في الأرض يدخله الإنسان بمشقة، والجماح: السرعة التي تتعذر مقاومتها.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن المنافقين يظهرون غير ما يضمرون، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين، وذكر أنهم يتمنّون أن تدور الدوائر على المؤمنين قفّى على ذلك بذكر غلوّهم في النفاق وأنهم لا يتحرّجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة، وأنهم يتمنون أن يجدوا أي السبل للبعد عن المؤمنين، فيلجئوا إليها مسرعين.

الإيضاح

(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي ويحلفون بالله لكم كذبا إنهم منكم في الدين والملة وهم ليسوا من أهل دينكم وملتكم بل هم أهل شك ونفاق، ولكنهم يخافونكم فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي إنهم لشدة كرمهم للقتال معكم، ولبغض معاشرتهم إياكم، ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والعيش في مكان يعتصمون به من انتقامكم منهم، فلو استطاعوا السكنى في الحصون والقلاع، أو في كهوف الجبال ومغاراتها، أو في أنفاق الأرض وأسرابها - لولّوا إليه مسرعين كالفرس الجموح لا يردّهم شيء.

وإنما وصفهم الله سبحانه بتلك الأوصاف، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفى دورهم وأموالهم، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر ودعوى الإيمان، وفى أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان به وبالغ الحقد عليهم.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 58 الى 59]

ومِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

تفسير المفردات

اللمز: العيب والطعن في الوجه، والهمز: الطعن في الغيبة، ورغبه ورغب فيه: أحبه، ورغب عنه: كرهه، ورغب إليه: طلبه وتوجه إليه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الأيمان إذا وجدوا في ذلك طريقا لخدعة المؤمنين في تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون كى يأمنوا جانبهم، وأنهم يجدّون في البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا - أردف ذلك بذكر سوأة أخرى من سوءاتهم وهي أنهم يتمنّون الفرص للطعن على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يواقعوا الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم، فولجوا هذا الباب وقالوا ما شاءوا أن يقولوا.

روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة فنزلت فيهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية ».

وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: « أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ورأى ذلك رجل من الأنصار فقال ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية.

ومجموع الروايات يدل على أن أشخاصا من منافقى المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية، ولم يقله أحد من المهاجرين ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في منى.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) أي ومن المنافقين من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وهي أموال الزكاة المفروضة، إذ يزعمون أنك تحابى فيها وتؤتى من تشاء من الأقارب وأهل المودة ولا تراعى العدل في ذلك.

ثم بين سبحانه أسباب هذا اللمز وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا فقال:

(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) أي فإن أعطوا ولو بغير حق كأن أظهروا الفقر كذبا واحتيالا، أو أعطوا لتأليف قلوبهم - رضوا بهذه القسمة واستحسنوا فعلك.

(وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي وإن لم يعطوا منها فاجئوك بالسخط وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء، إذ لاهمّ لهم إلا المنفعة الدنيوية ونيل حطام الدنيا.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ) أي ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الله من الغنائم وغيرها وأعطاهم رسوله بقسمة الغنائم والصدقات كما أمره الله، وقالوا الله يكفينا في كل حال، وسيعطينا من فضله بما يرد علينا من الغنائم والصدقات، لأن فضله لا ينقطع، ورسوله لا يبخص أحدا منا شيئا يستحقه في شرع الله، وقالوا إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم - لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم من الطمع في غير مطمع ومن همز الرسول ولمزه.

والخلاصة - إنهم لو رضوا من الله بنعمته، ومن الرسول بقسمته، وعلّقوا أملهم بفضل الله وكفايته، وبما سينعم به عليهم في مستأنف الأيام، وبأن الرسول يعدل في القسمة لكان في ذلك الخير كل الخير لهم.

وفي ذلك إيماء إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعا بكسبه وما يناله بحق من صدقة ونحوها مع توجيه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه في الحصول على رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية.
[عدل] [سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

تفسير المفردات

الصدقة: هي الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة، والفقير، من له مال قليل دون النصاب (أقل من اثنى عشر جنيها) والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته، والعامل عليها: هو الذي يولّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء، والمؤلفة قلوبهم: هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام أو التثبيت فيه، وفى الرقاب: أي وللإنفاق في إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق، والغارمين: أي الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أداؤها، وفى سبيل الله: أي وفى الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته، والمراد بهم كل من سعى في طاعة الله وسبل الخيرات كالغزاة والحجاج الذين انقطعت بهم السبل ولا مورد لهم من المال وطلبة العلم الفقراء، وابن السبيل: هو المسافر الذي بعد عن بلده ولا يتيسر له إحضار شيء من ماله فهو غنى في بلده، فقير في سفره، فريضة من الله: أي فرض الله ذلك فريضة ليس لأحد فيها رأي.

الإيضاح

مصارف الزكاة والأشخاص الذين تعطى لهم أصناف ثمانية:

(1) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) أي إنما تعطى زكاة النقد أو النّعم أو التجارة أو الزرع للفقراء الذين يحتاجون إلى مواساة الأغنياء، لعدم وجود ما يكفيهم من المال بحسب حالهم.

(2) (وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقراء لقوله تعالى: « أَوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ » أي ألصق جلده بالتراب في حقرة استتر بها مكان الإزار، وبطنه به لشدة الجوع وذلك منتهى الضر والشدة.

(3) (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) وهم الذين يبعثهم السلطان لجبايتها أو حفظها، فيشمل الجباة (المحصّلين) وخزنة المال (مديرى الخزائن) وهم يأخذون منهاعمالتهم على عملهم لا على فقرهم.

روى أحمد والشيخان أن ابن السعدي المالكي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت إنما عملت لله، فقال: خذ ما أعطيت فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمّلنى (أعطاني العمالة) فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل فكل وتصدّق ».

(4) (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وهم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام، أو تثبيتهم فيه، أو كفّ شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم أو نصرهم على عدوّ لهم، وهم أصناف ثلاثة:

(ا) صنف من الكفار يرجى إيمانهم بتأليف قلوبهم كصفوان بن أمية الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره وأعطاه إبلا محمّلة، فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر، وروي أنه قال: والله لقد أعطاني وهو أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إلى، وقد حسن إسلامه.

(ب) صنف أسلم على ضعف، ويرجى بإعطائه تثبيته وقوة إيمانه ومناصحته في الجهاد كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.

(ح) صنف من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.

ويرى أبو حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله الإسلام، واحتج بأن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وبأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا النوع.

(5) (وَفِي الرِّقابِ) أي وللإنفاق في فك الرقاب بإعانة المكاتبين من الأرقاء في فك رقابهم من لرق، أو لشراء العبيد واعتقاقهم، وهذا من أكبر الإصلاح البشرى الذي هو المقصود من رحمة الإسلام وعدله.

روى أحمد والبخاري عن البراء بن عازب قال: « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: دلنى على عمل يقربنى من الجنة ويبعدنى من النار، فقال: أعتق النّسمة وفكّ الرقبة، فقال يا رسول الله أوليسا واحدا؟ قال لا: عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها ».

(6) (وَالْغارِمِينَ) وهم الذين عليهم ديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها. وقد كان العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، وكانوا إذا علموا أن واحدا منهم التزم غرامة أو تحمل حمالة بادروا إلى معونته على أدائها وإن لم يسأل، وكانوا يعدون سؤال المساعدة على ذلك فخرا لا ذلا.

فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: « تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، فما سواها من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا » رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.

(7) (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة والمرابطون للجهاد، وروى عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد ونحو ذلك.

والحق أن المراد بسبيل الله مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد كتأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد لأنه واجب على المستطيع فحسب.

(Cool (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المنقطع عن بلده في سفر لا يتيسر له فيه شيء من ماله إن كان له مال، فهو غنى في بلده، فقير في سفره، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده.

وفي ذلك عناية بالسياحة وتشجيع عليها على شرط أن يكون سفره في غير معصية، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

وسهولة طرق الوصول في العصر الحاضر ونقل الأخبار في الزمن القليل جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورا بلا كلفة، فيسهل على الغنى أن يجلب ماله في أي وقت أراد، وإلى أي مكان طلب.

(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي إنما الصدقات لمن ذكر من أصناف المحتاجين، وفيما ذكر من مصالح الأمة فريضة من الله لهم أوجبها عليكم.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بأحوال الناس ومقدار حاجتهم، حكيم فيما يشرعه لهم تطهيرا لأنفسهم وتزكية لها، وشكرا لخالقهم على ما أنعم به عليهم كما قال: « خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ».
[عدل] [سورة التوبة (9): آية 61]

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)

تفسير المفردات

الأذى: ما يؤلم الحي المدرك في بدنه أو في نفسه ولو ألما خفيفا، يقال أذى بكذا أذى وتأذى تأذيا إذا أصابه مكروه يسير، والأذن: هو الذي يسمع من كل أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه، ويقولون رجل أذن: أي يسرع الاستماع والقبول، ويؤمن للمؤمنين: أي يصدقهم لما علم فيهم من علامات الإيمان الذي يوجب عليهم الصدق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن من دلائل نفاقهم الطعن في أفعاله صلى الله عليه وسلم كإيذاء الذين لمزوه في قسمة الصدقات - قفى على ذلك بذكر من طعن في أخلاقه وشمائله الكريمة بقولهم إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا.

روى ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: « كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه فأنزل الله الآية ».

وروي أنه اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ومخشّ بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم، وقال بعضهم: إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا فنزل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) الآية.

الإيضاح

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي ومن المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه ويقولون هو أذن سامعة: أي يسمع من كل أحد ما يقوله ويقبله ويصدقه، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول لوجود أمارات الصدق فيه، وما لا ينبغي قبوله، وهذا عيب في الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين، وإنما قالوا ذلك لأنه كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بأحكام الشريعة كما يعامل عامة المؤمنين بالبناء على الظاهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له.

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي إنه أذن ولكنه نعم الأذن، لأنه أذن خير لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق وما فيه المصلحة للخلق، وليس بأذن في سماع الباطل كالكذب والنميمة والجدل والمراء، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه كما هو شأن الملوك والزعماء الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه.

ثم بين سبحانه المراد من أذن الخير بقوله:

(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق بالله وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير غيركم، ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدثونه به.

وفي هذا إيماء إلى أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم ولا يصدقهم في أخبارهم وإن وكدوها بالإيمان اغترار بلطفه وأدبه صلى الله عليه وسلم، إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه.

(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو رحمة للذين آمنوا منكم إيمانا صحيحا صادقا، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لمن أظهر الإسلام وأسرّ الكفر نفاقا، إذ هو نقمة عليه في الدارين.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل فجزاؤهم العذاب الشديد الإيلام.

وفي هذه الآية وما في معناها دليل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كفر إذا كان فيما يتعلق برسالته، لأن ذلك ينافى الإيمان. وأما إيذاؤه في شئونه البشرية والعادات الدنيوية فحرام لا كفر كإيذاء الذين كانوا يطيلون المكث في بيوته لدى نسائه بعد الطعام وفيهم نزل: « إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ » وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم في ندائه ويسمونه باسمه كما قال تعالى: « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ».

وإيذاؤه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كإيذائه في حال حياته كالخوض في أبويه وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيا، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم مانع من تصدى المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله عليه إيذاء ما، فهذا الذنب من أكبر الذنوب ومعصية من أعظم المعاصي.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 62 الى 63]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدًا فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

تفسير المفردات

المحادّة من الحد: وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق (بالكسر) وهو الجانب، ونصف الشيء المنشق منه، وهما بمعنى المعاداة من العدوة (بالضم) وهي جانب الوادي لأن العدو يكون في غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان فكأن كلا منهما في شق وعدوة غير التي فيها الآخر، إذ هما على طرفى نقيض، وهكذا المنافقون يكونون في الجانب المقابل للجانب الذي يحب الله لعباده والرسول لأمته من الحق والخير والعمل الصالح.

المعنى الجملي

روى ابن المنذر عن قتادة قال: « ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: (ما حملك على الذي قلت؟) فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذّب الكاذب فأنزل الله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية ».

الإيضاح

(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا خطاب للمؤمنين أي يحلفون لكم إنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلى الله عليه وسلم ليرضوكم، وقد كان من دأبهم أن يتكلموا بما لا ينبغي أن يقال ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم.

وفي كثرة الاعتذار والحلف للمؤمنين في كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول أو فعل ليرضوهم فلا يخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم - دليل على أنهم شعروا بظهور نفاقهم وافتضاح أمرهم.

(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرا معلوما باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، فيوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين.

وفي التعبير بيرضوه دون يرضوهما إشعار بأن إرضاء رسوله هو عين إرضائه تعالى، لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به.

(إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن كانوا مؤمنين كما يدّعون ويحلفون - فليرضوا الله ورسوله وإلا كانوا كاذبين.

وفي الآية عبرة للمنافقين في زماننا وفى كل زمان، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس، وبخاصة الملوك والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضى ربهم، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل وأقذر السبل.

ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته بقوله:

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدًا فِيها) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الأمر الحق الذي لا شك فيه أن من يحادد الله ورسوله بتعدي حدوده أو يلمز الرسول في أعماله كقسمة الصدقات، أو في أخلاقه وشمائله كقولهم هو أذن - فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها أبدا لا مخلص له منها.

(ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي ذلك العذاب هو الذل والهوان العظيم الذي يصغر دونه كل خزى وذل في الحياة الدنيا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابو عمار
عضو نشيط
عضو نشيط
ابو عمار


عدد المساهمات : 393
تاريخ التسجيل : 14/12/2010

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 7:17 am


[سورة التوبة (9): الآيات 64 الى 66]

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)

تفسير المفردات

الحذر: الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه، والإخراج: إظهار الشيء الخفي المستتر كإخراج الحب والنبات من الأرض، والخوض: الدخول في البحر أو في الوحل، وكثر استعماله في الباطل لما فيه من التعرض للأخطار، والاعتذار: الإدلاء بالعذر، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه من عذر الصبى يعذره أي ختنه تطهيرا له بقطع عذرته أي قلفته، والطائفة: الجماعة من الناس والقطعة من الشيء: يقال ذهبت طائفة من الليل ومن العمر، وأعطاه طائفة من ماله.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات لبيان حال من أحوال المنافقين كشفت عنها غزوة تبوك، أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن مجاهد أن المنافقين كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون عسى ألا يفشى علينا هذا. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.

الإيضاح

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يحذر المنافقون أن تنزّل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوبهم أي قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشى أسرارهم. وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعي للشك والارتياب، إذ هم كانوا شاكين مرتابين في الوحي ورسالة الرسول ولم يكونوا موقنين بشىء من الإيمان ولا من الكفر، فهم مذبذبون لا هم بالمؤمنين الموقنين، ولا بالكافرين الجازمين بالكفر، ولو كانوا على واحد منهما لما خطر لهم الخوف على بال، إذ تكون قلوبهم مطمئنة بأحد الأمرين.

والخلاصة - إنهم يحذرون أن تنزل سورة في شأنهم وبيان حالهم، فتكون في ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم.

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي قل لهم: استهزئوا فإن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبيّن أمركم.

ونحو الآية قوله: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ ».

ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد على فعلهم، وكونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبئات سرائرهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) أي إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادّين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين للتسلى والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ الدين هزوا ولعبا كفر محض كما قال تعالى: « فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ » وقال: « فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ».

ويدخل في عموم الآية المبتدعون في الدين، والذين يخوضون في الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما.

أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: « بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: (احبسوا على هؤلاء الركب) فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا. قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون ».

(قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟) أي قل لهم: إن الخوض واللعب في صفات الله وشرعه وآياته المنزلة استهزاء بها. إذ كل ما يلعب به فهو مستخف به، وكل مستخف به فهو مستهزأ به.

وقصارى ذلك - ألم تجدوا ما تستهزئون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما، فهل ضاقت عليكم سبل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه وتلعبون غير هذا، ثم بعدئذ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل وتدلون بها بلا خوف ولا خجل.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجرم، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغي أن يكون، فاعتذاركم إقرار بذنبكم فهو كما يقال: عذر أقبح من الذنب.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمخشّ بن حمير نعذب بعضا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه.

وخلاصة ذلك - إن من تاب من كفره ونفاقه عفى عنه، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 67 الى 70]

الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

تفسير المفردات

بعضهم من بعض: أي متشابهون فيه وصفا وعملا كما تقول أنت مني وأنا منك أي أمرنا واحد لا افتراق بيننا، والمنكر: إما شرعي وهو ما يستقبحه الشرع وينكره، وإما فطرى: وهو ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة، وضده المعروف في كل ذلك، وقبض الأيدي: يراد به الكف عن البذل، وضده بسط اليد، نسوا الله: أي تركوا أوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ، فنسيهم: أي فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم من الثواب على ذلك في الآخرة، والفاسقون: أي الخارجون عن الطاعة، المنسلخون عن فضائل الإيمان، والوعد: يستعمل في إعطاء الخير والشر والنافع والضار، والوعيد خاص بالشر.

واللعن: الإبعاد من الرحمة والإهانة والمذلة، والمقيم: الثابت الذي لا يتحول، بخلاقهم: أي بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وخضتم: أي دخلتم في الباطل، وحبط العمل: فسد وذهبت فائدته، والخسارة في التجارة: تقابل الربح فيها، وأصحاب مدين: قوم شعيب، والمؤتفكات واحدها مؤتفكة من الائتفاك: وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف، وهي قرى قوم لوط.

المعنى الجملي

ذكر سبحانه في هذه الآيات أنواعا وضروبا من قبائح المنافقين كان ذكرانهم وإناثهم يفعلونها، وقرنها بالوعيد الشديد بما أعد لهم من الجزاء في زمرة إخوانهم الكفرة الذين من قبلهم على ما كانوا يقترفون من الفساد والإفساد، وتلاه بضرب المثل الذي يشرح حالهم لبيان السنن العامة في روابط الاجتماع وآثار الأخلاق في تلك الروابط.

الإيضاح

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي إن أهل النفاق رجالا ونساء يتشابهون في صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم كما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران « ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ » وقال الشاعر:

تلك العصا من هذه العصيّه هل تلد الحيّة إلا حيّه

ثم بين ذلك التشابه فقال:

(يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي إن بعضهم يأمر بعضا بالمنكر كالكذب والخيانة وإخلاف الوعد ونقض العهد كما جاء في الحديث: « آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان » رواه الشيخان عن أبي هريرة.

وينهون عن المعروف كالجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال كما حكى الله عنهم بقوله « هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ».

واقتصر من منكراتهم الفعلية على الامتناع عن البذل، لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالة على النفاق كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى دلائل الإيمان.

(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي نسوا أن يتقربوا إليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ولم يعد يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان، فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه وتوفيقه في الدنيا، ومن الثواب في الآخرة.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي إن المنافقين الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبيل الشيطان هم أكثر الناس فسوقا وخروجا من جميع الفضائل، حتى من الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة، فهم لا يبلغون مبلغهم في الفسوق والخروج من طاعة الله والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة.

ثم بين سبحانه ما أعدّ لهم ولأمثالهم من العقاب جزاء لهم على أعمالهم فقال:

(وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي وعد الله هؤلاء جميعا نار جهنم يصلونها ما كثين فيها أبدا.

وقدم المنافقين في الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام - شر من الكفار، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرّفة أو منسوخة كأهل الكتاب.

(هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي إن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقابا لهم في الآخرة على أعمالهم، وعليهم لعنة الله في الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، ولهم عذاب مقيم غير عذاب جهنم كالسّموم الذي يلفح وجوههم، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم، والضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وحرمانهم من لقاء الله وكرامته والحجاب دون رؤيته كما قال: « كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ».

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء فتنثم بأموالكم وأولادكم وغررتم بدنياكم كما فتنوا وغرّوا بها، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالا وأولادا، وقد كان جلّ مطلبهم وسعيهم هو التمتع بنصيبهم وحفظهم الدنيوي من الأموال والأولاد، فأطغتهم الدنيا وأغرتهم لذاتها، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتي يقصدها أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق وإقامة ميزان العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم، ولم تفضلوا عليهم بشىء من الاسترشاد بكلام الله وهدى رسوله، إذ لم تعملوا شيئا من الفضائل التي تزكى النفوس وتجعلها أهلا للسعادة، فكنتم أجدر بالعقاب منهم، لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم.

والخلاصة - إنكم حذوتم حذوهم وسلكتم سبيلهم مع توافر الدواعي على فعل ضد ما تعملون.

(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي ودخلتم في الباطل كما دخلوا على ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضى أن تكونوا أهدى منهم سبيلا.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي إن أولئك المستمتعين بخلاقهم وحظهم والخائضين في الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية فكان ضررها أكبر من نفعها لهم، لإسرافهم وإفسادهم في الأرض، وكذلك أعمالهم الدينية في الآخرة من عبادات وصلة رحم وصدقة وقرى ضيف، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، إذ شرط قبولها في الآخرة الإيمان والإخلاص، فهم خسروا في مظنة الربح والمنفعة.

ونحو الآية قوله: « هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا؟ ».

ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم فقال:

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أي ألم يأت أولئك المنافقين والكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم حين عصوا رسلهم وخالفوا أمر ربهم فأخذهم العذاب كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح العقيم التي أهلكت عادا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والعذاب الذي هلك به النّمروذ الذي حاول إحراق إبراهيم، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها.

وما كان من سنة الله ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب، وقد أعذرهم وأنذرهم ليجتنبوه، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم.

وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم والمنافقين، ليبين لهم أن سنة الله في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة، فلابد أن يحلّ بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا.

وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة وهي غزوة بدر، ثم خذل من بعدهم في سائر الغزوات، وما زال المنافقون يكيدون له في السر حتى فضحهم الله بهذه السورة، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد الله بن أبي بغيظه وكفره ولم تقم للنفاق قائمة من بعده.

وبهذا التمحيص كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس.

نشر الله بها أعلام دينه حتى سادت العالم جميعه.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 71 الى 72]

والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه أفعال المنافقين الخبيثة وذكر ما أعده لهم من العذاب في الدنيا والآخرة - قفّى على ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.

الإيضاح

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الولاية ضد العداوة، وتشمل ولاية النصرة وولاية الأخوة والمودة، ونصرة النساء تكون فيما دون القتال من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش من الأمور المالية والبدنية، وكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام ويحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال قال حسان:

تظلّ جيادنا متمطّرات تلطّمهن بالخمر النساء

وقال في وصف المؤمنين: بعضهم أولياء بعض، وفى وصف المنافقين بعضهم من بعض - لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضا، وبينهم ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل وإعلاء كلمة الله.

أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضا في الشكوك والذبذبة وما يتبعها من الجبن والبخل وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال، ومن ثم أكذب الله منافقى المدينة في وعدهم لليهود حلفاتهم بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم في قوله: « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ».

(يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وصف الله المؤمنين في هذه الآية بصفات خمس تضادّ مثلها في المنافقين.

(ا) إنهم يأمرون بالمعروف والمنافقون يأمرون بالمنكر.

(ب) إنهم ينهون عن المنكر والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان هما سياج الفضائل ومنع فشوّ الرذائل.

(ح) إنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله وحضور القلب في مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس.

(د) إنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم وما وفّقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون وإن كانوا يصلون، لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون ولكن خوفا أو رياء لا طاعة لله تعالى كما قال سبحانه: « وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ».

(ه) إنهم يستمرون على الطاعة بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الطاقة، وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم.

ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة وعظيم الجزاء على جميل أعمالهم فقال:

(أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) أي إنه تعالى يتعدهم برحمته في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم.

(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعده ولا وعيده حكيم لا يضع شيئا منهما في غير موضعه.

وبعد أن بيّن صفاته ورحمته لهم إجمالا - بين ما وعدهم به من الجزاء المفسّر لرحمته تقصيلا فقال:

(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) الجنات: البساتين الملتفة الأشجار التي تجنّ ما تحتها: أي تغطيه وتستره، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها، والمساكن الطيبة في جنات عدن هي الدور والخيام التي يطيب لساكنيها المقام فيها لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره، والعدن: الإقامة والاستقرار، يقال عدن في مكان كذا إذا أقام فيه وثبت، فجنات عدن هي جنات الإقامة والخلود كقوله: « جَنَّةُ الْخُلْدِ - جَنَّةُ الْمَأْوى » وقيل إنه منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها.

روي عن أبي هريرة « إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن ».

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) رضوان الله هو مقام رؤيته تعالى التي تكمل بها معرفته والإنسان جسد وروح، ففي الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني، ورضوان الله هو أعلى النعيم الروحاني.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الوعد بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم الذي يجزى به المؤمنون المخلصون، لا غيره من حظوظ الدنيا الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون.

وقد ورد في وصف الجنة ودرجاتها أحاديث بعضها موضوع، وبعضها منكر، ومن ذلك ما روى عن أبي هريرة وعمران بن حصين أنهما قالا لمن سألهما: على الخبير سقطت، وأنهما سألا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرا وصفا طويلا، منه أنه يوجد هناك ألوف من البيوت في كل منها ألوف من الحور العين، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين ككعب الأحبار وغيره. قال ابن القيم: لم يثبت في نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 73 الى 74]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)

تفسير المفردات

الجهاد، والمجاهدة: استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر. مجاهدة الشيطان. مجاهدة النفس والهوى، ويشير إلى هذه كلها قوله تعالى: « وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ - وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ »

وقال صلى الله عليه وسلم « جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم »

وقال « جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم »

والجهاد باللسان: إقامة الحجة والبرهان، والجهاد باليد: الجهاد بالسيف وكل الوسائل الحربية والغلظة: الخشونة والشدة في المعاملة، وهي ضد اللين. ونقم منه الشيء: أنكره وعابه عليه.

المعنى الجملي

بعد أن وصف الله تعالى المؤمنين بشريف الصفات، ووعدهم بأجزل الثواب وأرفع الدرجات - أعاد الكرّة إلى تهديد المنافقين وإنذارهم بالجهاد كالكفار المجاهرين بكفرهم إذا هم استرسلوا في إظهار ما ينافى الإسلام من الأقوال والأفعال كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره الله عليه وكذبهم في إنكارهم. وجهادهم ألا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر إلى نحو ذلك مما سيذكر بعد.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي ابذل أيها النبي جهدك في مقاومة هاتين الطائفتين اللتين تعيشان بين ظهرانيك بمثل ما يبذلان من جهد في عداوتك، وعاملهما بالغلظة والشدة التي توافق سوء حالهما.

وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان: أي بالحجة والبرهان.

وكان كفار اليهود يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم حتى بتحريف السلام عليه بقولهم (السام عليكم)، والسام الموت فيقول: (وعليكم) ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره، وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإسلام الظاهر، فجرّأهم هذا على أذاه بنحو قولهم (هُوَ أُذُنٌ) فأمره الله في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبى لهم، لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا كما قال:

ووضع النّدى في موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

وهو جهاد فيه مشقة عظيمة، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتاله لأعدائه المحاربين، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم، وأثر عن عمر أنه قال: « أذلّوهم ولا تظلموهم ».

وفي هذه الغلظة تربية للمنافقين وعقوبة لهم يرجى أن تكون سببا في هداية من لم يطبع الكفر على قلبه وتحط به خطايا نفاقه، فتقطيب وجهه صلى الله عليه وسلم في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون، ومن ير أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره يضق صدره، ويحاسب نفسه ويثب إلى رشده ويتب إلى ربه.

وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين وإسلام ألوف الألوف من الكافرين.

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لا مأوى لهم يلجئون إليه إلا دار العذاب التي لا يموت من أوى إليها، ولا يحيا حياة طيبة، وبئس المصير هي « إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا ».

والخلاصة - إنهم قد اجتمع لهم عذابان: عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة، وعذاب الآخرة بأن تكون جهنم مأواهم.

ثم ذكر سبحانه الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار، وهي أنهم أظهروا الكفر بالقول وهموا بشرّ ما يغرى به من الفعل، وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أظهره الله عليه وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم ويحلفون على إنكارهم ليصدقهم كدأبهم من قبل، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم كما قال تعالى « اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً » ويخوضون في آيات الله وفى رسوله استهزاء خرجوا به من الإيمان الذي يدّعونه إلى الكفر الذي يكتمونه فقال:

(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي يحلفون بالله إنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نسبت إليهم، والله يكذبهم ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغي ذكرها، ولئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها، وأصح ما قيل فيها مارواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلّموا، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله فقال له: علام تشتمنى أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم فأنزل الله: يحلفون بالله ما قالوا » الآية.

أما همّهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة منصرفه من تبوك - ذاك أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من المنافقين فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خبرهم فقال: من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثّموا وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ابن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه محجن، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركه قال: « اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار وراءها » فأسرعوا حتى استووا بأعلاها، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة « هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا؟ » قال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ » قالوا: لا والله يا رسول الله، قال: « فإنهم مكروا ليسيروا معى حتى إذا طلعت في العقبة طرحونى منها » قالوا: أولا تأمر بهم يا رسول الله إذا فنضرب أعناقهم؟ قال « أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدا قد وضع يده في أصحابه » فسماهم لهما وقال: « اكتماهم ».

والصحيح في عددهم ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « في أمتي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدّبيلة (خرّاج ودمّل كبير يظهر في الجوف يقتل صاحبه كثيرا) سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم » أي كأنه سراج من النار.

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم شيئا يقتضى الكراهة والهم بالانتقام - إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله من فضله بالغنائم التي هي عندهم أحب الأشياء لديهم في هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار فقراء فأغناهم الله ببعثة الرسول ونصره وبما آتاه من الغنائم كما وعده، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للأنصار « كنتم عالة فأغناكم الله بي ».

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) أي فإن يتوبوا من النفاق وما يصدر عنه من مساوى الأقوال والأفعال، يكن ذلك المتاب خيرا لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والعمل لما فيه السعادة في الآخرة ومعاشرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهدة فضائله وأخوّة المؤمنين بعضهم لبعض وما فيها من الودّ والوفاء الكامل والإيثار على النفس إلى نحو ذلك.

وأما في الآخرة فبما علمت مما وعد الله به المؤمنين من الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار والمساكن الطيبة.

(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي وإن أعرضوا عما دعوا إليه من التوبة وأصروا على النفاق وما ينشأ منه من المساوى الخلقية والنفسية - يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع كما قال سبحانه « لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ » وقال: « يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ » فهم في جزع دائم وهمّ ملازم.

وأما في الآخرة فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار التي تطلع على الأفئدة.

(وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لهم في الأرض كلها من يتولى أمورهم ولا من ينصرهم ويدافع عنهم، إذ من خذله الله فلا يقدر أحد أن يجيره.

أما في الدنيا فقد أغلقت في وجوههم الأبواب، فقد خص الله ولاية الأخوة والمودة والنصرة بالمؤمنين والمؤمنات دون المنافقين والمنافقات، وقد قضى الإسلام على جوار الجاهلية وعلى أحلافهم من أهل الكتاب في الحجاز بالقتل والجلاء.

وأما في الآخرة فقد تظاهرت النصوص على أنه لاولي ولا ظهير للكفار والمنافقين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابو عمار
عضو نشيط
عضو نشيط
ابو عمار


عدد المساهمات : 393
تاريخ التسجيل : 14/12/2010

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 7:29 am


[سورة التوبة (9): الآيات 75 الى 78]

وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)

المعنى الجملي

هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى من المنافقين أغناهم الله بعد فقر وإملاق، وقد كانوا يلجئون إلى الله وقت البأساء والضراء فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له والطاعة لشرعه إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم نكصوا على أعقابهم وكفروا النعمة وهضموا حقوق الخلق - ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.

الإيضاح

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله مالا وثروة ليشكرنّ له نعمته بالصدقة منها، وليعملنّ عمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به والإنفاق في سبيل الله: كإعداد العدة للجهاد وبذل المستطاع لخير الأمة وسعادتها بما يرقى بها في مختلف شئونها.

(فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فلما رزقهم وأعطاهم ما طلبوا - بخلوا بما آتاهم وأمسكوه فلم يتصدقوا منه بشىء، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا الله عليه، ولم يكن ذلك التولي عارضا طارئا، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة بحافز نفسي ملك عليهم أمرهم ومنعهم عن التصدق، بحيث إذا ذكّروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا لا يستجيبون.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال الليث: يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صيرت عاقبة أمره كذلك كما قال الهذلي:

أودى بني وأعقبونى حسرة بعد الرّقاد وعبرة لا تقلع

أي أعقبهم ذلك البخل والتولي بعد العهد الموثّق بأوكد الأيمان نفاقا في قلوبهم متمكنا منها وملازما لها إلى يوم الحساب في الآخرة لأنه لا رجاء معه في التوبة.

ثم ذكر سببين هما من أخص أوصاف المنافقين - إخلاف الوعد والكذب فقال:

(بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي إن سنة الله في البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكّن النفاق في القلب ويقويه، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوة ورسوخا في النفس، وهكذا جميع الأخلاق والعقائد تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر منها.

فهؤلاء لما كان قد رسخ في نفوسهم خلف الوعد واستمرار الكذب - مكّن ذلك النفاق في قلوبهم بمقتضى سننه وتقديره.

أخرج ابن جزير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) الآية: أن رجلا من الأنصار يقال له ثعلبة أتى مجلسا فأشهدهم قال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه وتصدقت وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن اهـ.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرّون، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان ولمز الرسول - أن الله يعلم السر الكامن في أعماق نفوسهم الذي يخصون به من يثقون به ممن هو مشارك لهم في النفاق، وأن الله يعلم الغيوب كلها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 79 الى 80]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

تفسير المفردات

لمزه: عابه، والمطّوّع: أي المتطوع، وهو من يؤدى ما يزيد على الفريضة، والصدقات: واحدها صدقة، والجهد (بالضم والفتح) الطاقة: وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان، وسخر منه: استهزأ به احتقارا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه بخل المنافقين وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم من فضله - أردف ذلك ببيان أنهم لم يقتصروا في جرمهم على هذا الحد، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين وذمهم في صدقاتهم غنيهم وفقيرهم، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حدّ لم يعد لهم فيه أدنى حظ من الإسلام، ولا أدنى نفع من استغفار الرسول ودعائه لهم لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله وعدم الرجاء في إيمانهم.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي مسعود البدري قال: « لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل (يحمل بعضنا لبعض بالأجر) فجاء أبو عقيل (اسمه الحبحاح) بنصف صاع وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله غني عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء. فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) الآية ».

وروى ابن جرير عن عكرمة قال: « حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة في غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال: يا رسول الله مالى ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها فقال « بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت » وتصدق يومئذ عاصم بن عدى بماثة وسق (ثلاثمائة وعشرين رطلا) من تمر وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، الحديث.

الإيضاح

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) أي أولئك هم الذين يلمزون المتطوعين من المؤمنين ويعيبونهم في أمر الصدقات التي هي أظهر آيات الإيمان، ويذمونهم في أكمل فضائلهم ويقولون ما فعلوها لوجه الله وإنما فعلوها رئاء الناس، فلمزهم هنا في مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها، واللمز هناك في قسمتها.

وقد جاء في بعض الروايات « أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عمر بصدقة، وجاء عثمان بصدقة عظيمة وكثير من أصحابه بصدقات، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكّر بنفسه ».

(وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم: أي الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم، فيستهزئون بهم احتقارا لما جاءوا به وعدّا له من الحماقة والجنون.

وخص هؤلاء بالذكر وإن كانوا داخلين في المتطوعين، لأن مجال لمزهم عند المنافقين أوسع، والسخرية منهم أشد، وهم أهل الإجلال والإكبار والأحق بالثناء عند المؤمنين.

(سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) أي فجازاهم الله بمثل ذنبهم، فجعلهم سخرية للمؤمنين وللناس أجمعين بفضيحتهم في هذه السورة ببيان مخازيهم وعيوبهم.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدم بيانه في هذه السورة بهذا اللفظ وغيره.

ثم بين سبحانه عقابهم وسوّاهم بالكافرين فقال:

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن تدع لهؤلاء المنافقين وتسأل الله أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها أو لا تدع فلن يستر الله عليهم ولن يعفو عنهم، ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد يوم القيامة.

ويراد بالسبعين في مثل هذا الأسلوب الكثرة لا العدد المعين، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم فلن يستجاب لك فيهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله فيتوب عليهم ويغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له ويقول « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » رواه ابن ماجه.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي من أجل جحودهم وحدانية الله وعدم إيقانهم بما وصف به تعالى نفسه من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب، وجحودهم وحيه لرسوله صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه من اتباعه، وجحودهم بعثه للموتى وجزاءهم على أعمالهم - لم يعف عن ذنوبهم ولا غما دسّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن سنة الله قد جرت فيمن أصروا على فسوقهم وتمردوا في نفاقهم وأحاطت بهم خطاياهم - أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان فلا يهتدون إليهما سبيلا.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 81 الى 83]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)

تفسير المفردات

الفرح: الشعور بارتياح النفس وسرورها، والخلاف والمخالفة بمعنى، ويستعمل خلافه بمعنى بعده، يقال جلست خلاف فلان وخلفه: أي بعده، ومنه: « وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا » والمخلفون من خلّف فلانا: أي تركه خلفه، ويفقهون: أي يعقلون، والخالف: المتخلف.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر بعض سوءات المنافقين من اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال ولمزهم في قسمة الصدقات وفى إعطائها، عاد إلى الكلام في ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال في غزوة تبوك وظلّوا في المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر.

الإيضاح

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) أي فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم في بيوتهم مخالفين الله ورسوله، وإنما فرحوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من أحر عظيم لا تذكر معه راحة القعود في البيوت شيئا.

(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي وقالوا لإخوانهم في النفاق إغراء لهم بالثبات على المنكر وتثبيطا لعزائم المؤمنين: لا تنفروا في الحر، قل لهم أيها الرسول مفنّدا آراءهم ومسفّها أحلامهم: نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه وعصى رسوله أشد حرا من تلك الأيام في أوائل فصل الخريف، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم ولا يلبث أن يخفّ ويزول، ونار جهنم حرها شديد دائم يلفح الوجوه وينضج الجلود، فهم لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا وقعدوا ولما فرحوا بقعودهم بل لحزنوا وبكوا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي إن الأجدر بهم بحسب ما تقتضيه حالهم وتستوجبه جريمتهم أن يضحكوا قليلا ويبكوا كثيرا لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر، وما سيحملونه في الآخرة من وزر، وما يلاقونه في الدنيا من خزى وضرّ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان، وارتكبوا من الإثم والبهتان، وكما يدين الفتى يدان.

ونحو الآية

قوله صلى الله عليه وسلم « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا: يظهر النفاق، وترتفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويتّهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخ بكم الشّرف الجون (الشرف بضمتين جمع أشارف وهي الناقة الكبيرة السن، والجون السود) الفتن كأمثال الليل المظلم ».

ثم بين ما يجب أن يعاملوا به في الدنيا قبل الآخرة مما يقتضى تركهم للفرح والغبطة في دنياهم بالتمتع بأحكام الإسلام فقال:

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي فإن ردك الله من سفرك هذا إلى طائفة من المنافقين المتخلفين، فاستأذنوك ليخرجوا معك في غزاة أو غيرها مما تخرج لأجله، فقل لهم: لن تخرجوا معى أبدا ولن يكون لكم أبدا شرف الصحبة بالخروج معى للجهاد في سبيل الله ما دمت ودمتم، ولن تقاتلوا معى عدوا لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك كأن يهاجم للمؤمنون في عقر دارهم كما حدث يوم وقعة الأحزاب.

ثم بين سبب النهي عن صحبتهم فقال:

(إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي إنكم رضيتم لأنفسكم بخزي القعود أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، إذ طلب إليكم أن تنفروا فلم تنفروا وعصيتم الله ورسوله، فاقعدوا أبدا مع الذين تخلفوا عن النّفر من الأشرار المفسدين الذين خرجوا عن سبيل المهتدين، وربما كان المراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعا عن الحق وإعلاء لكلمة الله.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 84 الى 85]

ولا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله رسوله بإهانة المنافقين وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات - قفّى على ذلك بذكر إهانة أخرى لهم وهي منع الرسول أن يصلى على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم، وفى مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي ولا تصل أيها الرسول بعد الآن على أحد من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك، ولا تتولّ دفنه والدعاء له بالتثبيت كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم.

روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال « استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنه الآن يسأل ».

ثم بين سبب نهيه عن الصلاة عليهم فقال:

(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) أي لأنهم كفروا وماتوا وهم خارجون من حظيرة الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه.

روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول لما توفّى عبد الله بن أبي: دعى رسول الله للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ أعدّد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى إذا أكثرت قال: « يا عمر أخّر عنى، إني قد خيّرت: قد قيل لي - استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم - فلو أعلم إني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها » ثم صلى عليه ومشى معه حتى قام على قبره إلى أن فرغ منه فعجبت لي ولجراءتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله رسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان « ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره » فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل.

وقد حكم كثير من العلماء كالقاضى أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث لمخالفته للآية من وجوه:

(1) جعل الصلاة على ابن أبي سببا لنزول الآية، وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر غزوة تبوك سنة ثمان، وابن أبي مات في السنة التي بعدها.

(2) قول عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: وقد نهاك ربك أن تصلى عليه - يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي - وقوله بعده - فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية - صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة عليه.

(3) قوله إنه صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خيره في الاستغفار لهم وعدمه، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، فأوفيها للتسوية لا للتخيير.

وهناك روايات أخرى في الصلاة على ابن أبي من طريق ابن عمرو من طريق جابر.

وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأى أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يقبل لما ذكروا من الأسباب - لأنه قلما يخلو تفسيره من ذكره، وقل أن تجد من يشير إلى شيء مما يدل على ضعفه واضطرابه لمخالفته لظاهر الآية، فرأينا أن نجعلك على بينة من أمره إذا أنت قرأته.

ثم أكد ما تقدم من النهي عن الاغترار بالأموال والأولاد لأن الأمر جدّ خطير يحتاج إلى التوكيد إذ هما أعظم الأشياء جذبا للقلوب، وجلبا للخواطر للاشتغال بالدنيا، فيجب التحذير منهما مرة بعد أخرى فقال:

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) قد جاء مثل هذا النص فيما سبق إلا أن زيادة (لا) في الآية السابقة للنهى عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما، والنهى في هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 86 الى 89]

وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

تفسير المفردات

الطّول (بالفتح): الغنى والثروة، وقد يراد به الفضل والمنة، وذرنا: أي دعنا واتركنا، والخوالف: واحدها خالفة ومثله خالف، وهو من لا خير فيه ولاغناء عنده، والطبع على القلوب: الختم عليها وعدم قبولها لشيء جديد.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن المنافقين عملوا الحيل والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو - قفى على ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنا نكن مع الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال.

الإيضاح

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي إنه كلما أنزلت سورة تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم - استأذنك أولو المقدرة على الجهاد المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم - في التخلف عن الجهاد وقالوا دعنا نكن مع القاعدين في بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال والصبيان والنساء غير المخاطبين به.

ونحو الآية قوله: « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ».

وفي هذا تصريح بجبنهم ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء اللواتى ليس عليهن فرض الجهاد، وهذا منتهى الجبن وتعافه النفس الكريمة التي لا ترضى بالمذلة.

ثم بين العلة في قبولهم هذا الذل فقال:

(وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إن الله قد ختم على قلوبهم فلا تقبل جديدا من العلم والمواعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها وصار وصفا لازما لها، لأن النفاق قد أثر فيها بحسب سنة الله في الارتباط بين العقائد والأعمال، فهم لا يفهمون ما أمروا به، فهم تدبر واعتبار فيعملوا به.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي ولكن الرسول والذين آمنوا به وكانوا معه في كل المهامّ الدينية لا يفارقونه - جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وقاموا بالواجب خير قيام عملا بداعي الإيمان وأمر الله في القرآن.

(وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي وأولئك المجاهدون في سبيل الله لهم الخيرات التي هي ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر ومحو كلمة الكفر وإعلاء كلمة الله وإقامة الحق والعدل والتمتع بالمغانم والسيادة في الأرض، دون المنافقين الجبناء الذين ألفوا الذلة والهوان ولم يكونوا أهلا للقيام بهذه الأعباء، وأولئك هم الفائزون بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة دون المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم بما له من الأثر في الأثر في أخلاقهم وأعمالهم.

(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم شرح هذا في آيات سابقة.
[عدل] [سورة التوبة (9): آية 90]

وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)

تفسير المفردات

المعذّر: من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وتوإني ولم يجدّ وهو يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، وقد يكون أصله المعتذرون من اعتذر، والمعتذر إما صادق أو كاذب، والأعراب: هم سكان البدو، وكذبوا الله ورسوله: أي أظهروا الإيمان بهما كذبا، يقال: كذبته نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال منافقى الحضر في المدينة - أردف ذلك ذكر حال الأعراب من البدو الذين طلبوا الإذن بالتخلف والذين تخلفوا بغير إذن.

الإيضاح

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي وجاء الذين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام من أولى التعذير.

قال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا نبي الله: إنا إن غزونا معك أغارت طيىء على نسائنا وأولادنا وأنعامنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم.

واختلفت الروايات بين قائل بصدقهم في الاعتذار، وقائل بكذبهم فيه، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون في اعتذارهم، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا الله ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين.

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما على غير اعتقاد صادق، قال أبو عمرو بن العلاء: كان كلا الفريقين مسيئا، قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله بقوله: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، فأوعد المكذبين وبعض المعتذرين بقوله:

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي سيصيب الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين والكاذبين من المعتذرين الذين في قلوبهم مرض - عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 93]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر المعذرين والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوء صنيعهم - قفى على ذلك بذكر أصناف ثلاثة أعذارها مقبولة، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار وهو استئذان الأغنياء.

الإيضاح

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إن التكليف بالغزو ساقط عن أصناف ثلاثة:

(1) الضعفاء وهم من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان وذوي العاهات التي لا تزول كالكساح والعمى والعرج.

(2) المرضى وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد، وعذرهم ينتهى إذا شفوا منها.

(3) الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا، ولا ما يكفى عيالهم.

وقد كان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغنى ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته كما فعلوا في غزوة تبوك.

والخلاصة - إن هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم: أي لا ضيق عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب على شرط أن ينصحوا لله ورسوله: أي يخلصوا لله في الإيمان وللرسول في الطاعة بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإسلامية ولا سيما المجاهدين منها من كتمان السر والحث على البر ومقاومة الخائنين في السر والجهر.

روى مسلم عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الدين النصيحة - قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ».

وروى البخاري ومسلم عن جابر قال: « بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم ».

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) السبيل: الطريق أي ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذتهم، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم.

وقد جاء هذا الأسلوب كثيرا في الكتاب الكريم، وهو عام في كل من أحسن عملا من أعمال البر والتقوى كما قال تعالى: « بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ».

وقد تفضل الشارع الحكيم فجازى المحسن بأضعاف إحسانه ولم يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته.

والخلاصة - إن كل ناصح لله ورسوله فهو محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج.

ثم قفّى ذلك بذكر الصفح عنهم والتجاوز عن سيئاتهم فقال:

(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وهو سبحانه كثير المغفرة واسع الرحمة يستر على المقصرين ضعفهم في أداء الواجبات ما داموا مخلصين النصح لله ورسوله، ويدخلهم في زمرة الصالحين من عباده.

أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببا في ارتكاب هذه الآثام.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) يقال حمله على البعير أو غيره أركبه إياه أو أعطاه إياه ليركبه، وكأنّ الطالب لظهر يركبه يقول لمن يطلب منه: احملني.

أي لا حرج على من ذكروا أولا ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك، فلم تجد ما تحملهم عليه، وهؤلاء وإن دخلوا في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل - قد خصوا بالذكر اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم قسم مستقل.

(تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي انصرفوا من مجلسك وهم يبكون بكاء شديدا يصحبه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلىء دمعا يتدفق من جوانبها حزنا وأسفا على أنهم لا يجدون ما ينفقون ولا ما يركبون في خروجهم معك للجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال: « أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا يا رسول الله احملنا فقال: (والله لا أجد ما أحملكم عليه) فأنزل الله (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية، وكانوا يسمون البكائين.

وفي رواية أنهم ما سألوه إلا الحملان على البغال، وفى رواية أنهم سألوه الزاد والماء، ولا مانع من وقوع كل هذا في هذه الغزوة الكبيرة، ولكن الذين في الآية هم طلاب الرواحل.

وعدم وجود ما يحملون عليه يدخل فيه مراكب النقل البرية والبحرية والهوائية في هذا العصر، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها في كل سفر بحسبه، ويفقد العذر بوجوده.

ولما بين من لا سبيل عليهم في تلك الحال - ذكر من عليهم السبيل فقال:

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي إنما الطريق الموصل للمؤاخذة والمعاقبة بالحق على من يطلبون الإذن في القعود عن الجهاد والتخلف عن الغزو وهم أغنياء يستطيعون إعداد العدة من زاد وراحلة ونحو ذلك.

ثم ذكر السبب في استحقاقهم المؤاخذة فقال:

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين من النساء والأطفال والمعذرين من المفسدين.

(وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وأحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم بحسب سنن الله في أمثالهم، فهم لا يعلمون حقيقة أمرهم ولا سوء عاقبتهم، وما هو سبب ذلك من أعمالهم، فهم قد رضوا بالمهانة في الدنيا بانتظامهم في سلك النساء والأطفال - إلا أنّ تخلف الأفراد عن القتال الذي تسعى إليه الشعوب والأمم يعد من مظاهر الخزي والعار، وقد جعله الدين من أقوى آيات الكفر والنفاق.

وأما سوء عاقبتهم فيكفي فيه فضيحتهم في هذه السورة كفاء إحجامهم عن الجهاد في سبيله. وما أعده لهم من العذاب العظيم والخزي والنكال في نار الجحيم.

اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا لدى هول الموقف والحساب، واجعلنا ممن أخلصوا العمل في السر والنجوى، واحشرنا في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء في الحادي عشر من ذي القعدة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وله الحمد أولا وآخرا.
[عدل] [تتمة سورة البراءة]

بسم الله الرحمن الرحيم
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 94 الى 96]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)

تفسير المفردات

الغيب: ما غاب عنك علمه، والشهادة: ما تشهده وتعرفه، الانقلاب: الرجوع، رجس: أي قذر يجب الإعراض عنه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذّرين، ومن لا سبيل إلى مؤاخذتهم وعدم الحرج عليهم - ذكر في هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودتهم.

الإيضاح

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي سيعتذر إليكم أيها المؤمنون أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وهم أغنياء أصحاء لا عذر لهم عن التخلف عن الغزو وغيره من سيئاتهم عند رجوعكم من السفر.

(قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي قل لهم أيها الرسول: لا تعتذروا إنا لن نصدّقكم في معاذيركم أبدا ولن نطمئنّ إليكم.

ثم بين السبب في عدم تصديقهم فقال:

(قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أنبأنا الله بوحيه إلى رسوله بعض أخباركم التي تسرّونها في ضمائركم وهي مخالفة لظواهركم التي تعتذرون بها، ونبأ الله هو الحق الذي لا شك فيه، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل ولا يصدّق الكاذب.

وإنما قال نبأنا ولم يقل نبأني إيماء إلى أنه أمره أن ينبّىء بذلك أصحابه ولم يكن هذا النبأ خاصا به، كما أن اعتذارهم للجميع يقتضى أن يكونوا كلهم عالمين بما فضحهم الله به، وفى هذا من التشهير بهم والخزي لهم ما لا خفاء فيه.

(وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي وسيرى الله عملكم ورسوله فيما بعد، وهو الذي سيدلّ: إما على إصراركم على النفاق أو على التوبة والإنابة إلى ربكم، وأما أقوالكم فلا يعتدّ بها مهما وكدتموها بالأيمان، فإن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وشهد لكم عملكم بصلاح طويّتكم، فإن الله يتقبل منكم توبتكم، ويغفر لكم حوبتكم، ويعاملكم الرسول بما يعامل به المؤمنين الذين أخلصوا وصدقوا وشهدت لهم أعمالهم بذلك، وإن أنتم أبيتم إلا الإصرار على النفاق وإلا الاعتماد على رواج سوق الكذب بتلك الأيمان التي تحلفونها فسيعاملكم الرسول بما أمره الله به من جهادكم والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين.

وفي هذا إيماء إلى الرغبة في توبتهم حين سنوح الفرصة.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم تردون يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم ما تكتمون وما تظهرون، فينبئكم حينئذ بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه بما تستحقون وهو ما أوعدكم به في كتابه الكريم في هذه السورة وفى غيرها « إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ».

وفي الآية إيماء إلى أنه ينبغي تحامى كل ما يعتذر منه من ذنب أو تقصير، وقد ورد في الحديث « إياك وما يعتذر منه ».

ثم أكد ما سبق من نفاقهم بقوله:

(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الأيمان إذا انقلبتم من سفركم ورجعتم إليهم لتعرضوا عن العتب عليهم والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين من العجزة والنساء والأطفال وعلى البخل بالنفقة والمال.

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي فأعرضوا عنهم إعراض الإهانة والتحقير، لا إعراض الصفح وقبول العذر. روى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قدم المدينة « لا تجالسوهم ولا تكلموهم ».

ثم علل هذا بقوله:

(إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي إن في نفوسهم قدرا معنويا يجب الاحتراس منه خوف سريان عدواه، وميل النفوس إليه، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسّية التي ربما تصيبه إذا لم يحتط لها.

(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء لهم بما كسبوا في الدنيا من أعمال النفاق وغيرها مما دنس نفوسهم، وزادهم رجسا على رجسهم.

ثم زاد في تأكيد نفاقهم فقال:

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي يحلفون لكم لتستديموا معاملتهم بظاهر إسلامهم، وهذا أهمّ الأغراض لديهم، فلا حظّ لهم من إظهار الإسلام سواه، ولو كان إسلامهم عن يقين واعتقاد لكان غرضهم الأول إرضاء الله ورسوله.

(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فإن ترضوا عنهم كما أرادوا، وساعدتموهم على ما طلبوا فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعا، فإن الله ساخط عليهم بسبب فسوقهم وخروجهم عن أمره ونهيه.

وفي هذا إيماء إلى نهى المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة وأن من يرضى عنهم من المؤمنين يكون فاسقا مثلهم محروما من رضوان الله، وأن من يتوب منهم ويرضى الله ورسوله يخرج من حدود سخطه ويدخل في حظيرة مرضاته ولا يعدّ حينئذ فاسقا.

روي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في الجدّ بن قيس ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم.

وقال قتادة: إنها نزلت في عبد الله ابن أبي فإنه حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بعد عودته ألا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى عنه فلم يفعل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابو عمار
عضو نشيط
عضو نشيط
ابو عمار


عدد المساهمات : 393
تاريخ التسجيل : 14/12/2010

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 7:30 am


[سورة التوبة (9): الآيات 97 الى 99]

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

تفسير المفردات

الأعراب: اسم لبدو العرب: واحده أعرابي والأنثى أعرابية، والعرب اسم لهذا الجيل الذي ينطشق بهذه اللغة بدوه وحضره: واحده عربي، والمغرم: الغرامة والخسران، من الغرام بمعنى الهلاك، والدائرة: ما يحيط بالشيء والمراد بها ما لا محيص منه من تصاريف الأيام ونوائبها التي تحيط شرورها بالناس، والدائرة أيضا: النائبة والمصيبة، والسوء: اسم لما يسوء ويضر، والقربات: واحدها قربة، وهي في المنزلة والمكانة كالقرب في المكان والقرابة في الرحم، والصلوات: واحدها صلاة، ويراد بها الدعاء.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم، بين في هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك.

الإيضاح

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ) أي إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين:

(1) إن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر، ولا سيما من يقيم منهم في المدينة، فهم أغلظ طباعا وأقسى قلوبا، لأنهم يقضون جلّ أعمارهم في رعى الأنعام وحمايتها من ضوارى الوحوش - إلى أنهم محرومون من العلوم الكسبية والآداب الاجتماعية.

(2) إنهم أحق وأحرى من أهل الحضر بألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من الهدى والبينات في كتابه وما آتاه من الحكمة التي بيّن بها تلك الحد تارة بالقول وأخرى بالفعل.

وكان صحابته في المدينة وما حولها يتلقّون عنه الكتاب حين نزوله ويشهدون سنته في العمل به، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتتحت يبلغون الناس القرآن ويحكمون به وبسنة رسوله المبيّنة له - وكل هذا لم يكن مستطاعا لأهل البوادي، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية.

روى أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا « من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا »

ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول ويؤثرهم بالنصح ولا يزداد قربا منهم إلا المراءون الذين يعينونهم على الظلم ويثنون عليهم بالباطل.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واسع العلم بشئون عباده وأحوالهم من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق، تامّ الحكمة فيما شرعه لهم، وفى جزائهم من نعيم مقيم، أو عذاب أليم.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَمًا) أي ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم في الجهاد رياء وتقيّة، ويعدّون ذاك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعا أو كرها لدفع المكروه عن أنفسهم أو عن قومهم ولا منفعة لهم فيها لا في الدنيا وهو واضح، ولا في الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قال الضحاك: وهم بنو أسد وغطفان.

(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي وينتظرون أن تحل بكم نوائب الزمان وأحداثه التي تدور بالناس وتحيط بهم، فتبدّل قوتكم ضعفا وانتصاركم هزيمة، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم، إذ يستغنون عن إظهار الإسلام نفاقا، وقد كانوا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين، فلما أعيتهم الحيل صاروا ينتظررن موت النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أن الإسلام يموت بموته.

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذا دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به المؤمنين، أي عليهم وحدهم الدائرة السوءى تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم وليس للمؤمنين عاقبة إلا ما يسرهم من نصر الله وتوفيقه لهم، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم في الدنيا قبل الآخرة.

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقولونه مما يعبر عن شعورهم واعتقادهم في نفقاتهم إذ تحدثوا بذلك فيما بينهم، عليم بما يضمرونه في سرائرهم، وسيحاسبهم على ما يسمع ويعلم من قول وفعل ويجزيهم به.

وبعد أن بيّن حال المنافقين من الأعراب - ذكر حال المؤمنين الصادقين منهم فقال:

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ومن الأعراب من يؤمن بالله ويثبت له القدرة وكمال التصرف في الكون، واليوم الآخر الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت، قال مجاهد: هم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قال الله فيهم « وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ».

(وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي ويتخذ ما ينفقه وسيلة لأمرين:

(1) القربات والزلفى عند الله تعالى جدّه.

(2) صلوات الرسول أي أدعيته، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم، ولم يجىء في نصوص الدين انتفاع أحد بعمل غيره إلا الدعاء وما يكون المرء سببا فيه كالولد الصالح والسنة الحسنة يتّبع فيها.

وسميت الصلوات الشرعية بهذا الاسم من قبل أن الدعاء وهو المعنى اللغوي لها هو روحها ومخها وسرها الذي به تتحقق العبودية على أتمّ وجوهها.

وقد بين الله جزاءهم على ما انطوت عليه نفوسهم من صدق الإيمان وإخلاص النية في الإنفاق في سبيل الله فأخبر بقبول نفقتهم وإثابتهم عليها فقال:

(أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي ألا إن تلك النفقة التي اتخذت قد تقبلها الله وأثاب عليها بما وعد به في قوله:

(سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي سيرحمهم الله برحمته الخاصة بمن رضى عنهم، وهي هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى جنات النعيم، والمراد بإدخالهم في الرحمة أن تكون محيطة بهم شاملة لهم وهم مغمورون فيها، وهذا أبلغ في إثباتها لهم من مثل قوله: « يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ».

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه واسع المغفرة والرحمة لمن يخلصون في أعمالهم، فهو يغفر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى خير العمل وحسن المصير.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 100 الى 102]

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

تفسير المفردات

رضي الله عنهم: أي قبل طاعتهم، ورضوا عنه: أي بما أسبغ عليهم من النعم الدنيوية والدينية، ومردوا: أي مرنوا وحذقوا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات - قفى على ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم، وهي منازل السابقين من المهاجرين والأنصار. ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هي شر الجميع مرنت على النفاق وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيىء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.

الإيضاح

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ذكر الله في هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هي خيرها:

(1) السابقون الأولون من المهاجرين، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها ولا يمكّنون أحدا من الهجرة متى كان ذلك في طاقتهم، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا في ذلك الحين كانوا من المؤمنين الصادقين، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة ثم العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

(2) السابقون الأولون من الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة في مني في المرة الأولى سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، وفى المرة الثانية، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين.

(3) الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم، فإذا اتبعوهم في ظاهر الإسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين في هذا الاتباع، وإذا اتبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض كانوا مذنبين.

(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي هؤلاء جميعا رضي الله عنهم في إيمانهم وإسلامهم، فقبل طاعتهم وتجاوز عن زلّاتهم، وبهم أعز الإسلام ونكّل بأعدائه من المشركين وأهل الكتاب، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية فأنقذهم من الشرك، وهداهم من الضلال، وأعزهم بعد الذل، وأغناهم بعد الفقر.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا الوعد الكريم تقدم في آيات سابقة في هذه السورة وغيرها، ولا شك أن نعيم الجنة الخالد بين روحاني وبدني فوز أيّما فوز.

والخلاصة - إن هذه الطبقات الثلاث قد استبق أفرادها الصراط، وشهد لهم ربّهم بالمغفرة والتجاوز عن كل ذنب، وما عاد يؤثّر في كمال إيمانهم شيء، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحد منهم بإلمامه بذنب.

وبعد أن بيّن كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث ورضاه عنهم - بين حال منافقى أهل المدينة ومن حولها فقال (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي إن بعض الأعراب الذين حولكم منافقون.

قال البغوي والواحدي: هم من قبائل جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار، وكانت منازلهم حول المدينة، وذلك لا يمنع أن يكون فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومدحهم.

فقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وعفار موالى الله تعالى ورسوله لا موالى لهم غيره »، وعنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: « أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها، لكن قالها الله تعالى ».

وكذلك من أهل المدينة نفسها ناس منافقون، من الأوس والخزرج سوى من أعلم الله رسوله بهم في هذه السورة بما صدر منهم من أقوال وأفعال تنافي الإيمان.

هؤلاء وهؤلاء مرنوا على النفاق وحذقوه حتى بلغوا الغاية في إتقانه، فلا يشعر أحد به، إذ هم يتقون جميع الأمارات والشبه التي تدل عليه.

(لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) أي لا تعرفهم أيها الرسول الكريم بفطنتك ودقيق فراستك لحذقهم في التقيّة وتباعدهم عن مثار الشبهات، بل نحن نعلمهم بأعيانهم، وهؤلاء أخفى نفاقا ممن قال الله فيهم: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ».

وهؤلاء لم يعلمه الله أعيانهم ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم في هذه السورة، لأنهم يتحامون ما يكون شبهة في إيمانهم، وضررهم مقصور عليهم لا يعدوهم إلى سواهم.

والحكمة في إخبارنا بحالهم أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم الله كما فضح سواهم، وليتوب منهم من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله:

(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) أي سنعذبهم في الحياة الدنيا مرتين: أولاهما ما يصيبهم به من المصايب وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم. وثانيتهما آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم في ذلك الحين، ثم يردون يوم القيامة إلى عذاب جهنم وبئس المصير.

والخلاصة - إنهم يعذبون في الدنيا بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر وعذاب الخوف من الفضيحة على رءوس الأشهاد في الظاهر، ثم عذاب النار وبئس القرار.

وجملة القول - إن المنافقين فريقان: فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى لا يشعر أحد بشىء يستنكره منهم.

وهذان الفريقان يوجدان في كل عصر، فما من قطر من الأقطار إلا مني أهله بأعوان وأنصار منهم يزعمون أنهم يخدمون أمتهم من طريق استمالة الغاصب واسترضائه، وأنه لولاهم لتمادى في ظلمه وهضم حقوق الأمة ولم يقف عند حد، ومنهم من يخدمون المستعمرين خدمة خفية لا تشعر بها الأمة لأنهم مرنوا على النفاق.

وأشد المنافقين مرودا على النفاق أعوان الملوك المستبدين الذين يلبسون الباطل لباس الحق ويروجونه في أعين الجماهير خدمة لأولئك الملوك.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) أي وهناك فريق آخر ممن حولكم من الأعوان ومن أهل المدينة ليسوا منافقين ولا من السابقين الأولين، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل بالسيىء منه، والسيّء بالصالح، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين، ثم كانوا حين قعودهم ناصحين لله ورسوله شاعرين بذنوبهم خائفين من ربهم.

وقد بين سبحانه حالهم بقوله:

(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنهم محل الرجاء لقبول الله توبتهم بتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هي سبب المغفرة والرحمة - وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب وسوء عاقبته، وتوبيخ الضمير حين تصور سخط الله والخوف من عقابه - ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم، والعزم على عدم العود إلى قترافه، والعزم على العمل بضده ليمحو أثره من نفسه.

ثم علل هذا بقوله:

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى يقبل توبتهم، لأنه كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين.

وفي معنى الآية قوله: « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى » وقوله: « إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ».

قال جماعة من العلماء: إن هذه الآية أرجى آية في القرآن في توقع رحمة الله للمذنبين الذين يجترحون السيئات ثم يتوبون إلى ربهم ويقلعون عن ذنوبهم.

روى البخاري عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أتاني الليلة أي في المنام ملكان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا لقد تجاوز الله عنهم ».

ولا شك أن هذا تمثيل في الرؤيا لتجميل العمل الصالح للنفس وتشويه العمل القبيح لها، ولتطهيرها بالتوبة وصالح العمل حتى تكون كلها جميلة وأهلا للكرامة بعد أن تبعث كلها في الصورة التي كانت عليها قبل التوبة، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر جار يفيض على عتبة الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يبقى عليها وسخا أو قذرا؟.

وفي الحديث: « أتبع السيئة الحسنة تمحها ».
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 103 الى 105]

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

تفسير المفردات

الصدقة: ما ينفقه المؤمن قربة لله، والتزكية، من قولهم رجل زكي: أي زائد الخير والفضل قاله في الأساس، والصلاة: الدعاء، والسكن: ما تسكن إليه النفس وترتاح من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء.

المعنى الجملي

جاءت هذه الآيات في بيان فوائد صدقة الأموال والحث عليها وقبول التوبة لمن قصّر في الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه.

روى ابن جرير أن أبا لبابة وأصحابه (ممن تخلفوا وتابوا وسيأتي ذكرهم) جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أطلقوا فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا » فأنزل الله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فلما نزلت أخذ الثلث من أموالهم فتصدق به عنهم.

وهذا النص - وإن كان سببه خاصا - عام في الأخذ، يشمل خلفاء الرسول من بعده ومن بعدهم من أئمة المسلمين وفى المأخوذ منهم وهم المسلمون الموسرون، ومن ثم قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعى الزكاة من أحياء العرب حتى أدّوا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: « والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأفاتلنهم على منعه ».

الإيضاح

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) أي خذ أيها الرسول من أموال هؤلاء ومن غيرهم من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها من نقد وأنعام وأموال تجارة، صدقة بمقدار معين في الزكاة المفروضة أو بمقدار غير معين في زكاة التطوع تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والقسوة على الفقراء البائسين، وتزكى أنفسهم بها وترفعهم إلى منازل الأبرار بفعل الخيرات حتى يكونوا أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية.

وقد نسبت التزكية إلى الله في قوله: « وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا، وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ » لأنه الخالق الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح.

ونسبت إلى رسول الله في قوله: « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ». لأنه هو المربي للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم، ويعلوا قدرها باتباعهم سنته العملية والقولية وبيانه لكتاب الله، فهو القدوة الحسنة لهم.

ونسبت إلى الفاعل لها في نحو قوله: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » وقوله: « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى » لأنه قد فعل ما كان سببا في طهارة نفسه وزكاتها من صدقات ونحوها من أعمال البر.

وأما النهي عن تزكية النفس في قوله: « فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى » وقوله: « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ » فذاك في تزكية النفس بدعوى اللسان فقط دون عمل يؤيدها.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) أي وادع أيها الرسول للمتصدقين واستغفر لهم، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يذهب به اضطراب نفوسهم وتطمئن قلوبهم بقبول توبتهم، ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم بأخذك لها ووضعها في مواضعها.

والصلاة من الله على عباده رحمته لهم، ومن ملائكته استغفارهم كما قال تعالى: « إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا » ومن المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم دعاؤهم له بما أمرهم به في الصلاة بعد التشهد الأخير كالدعاء المأثور

(اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد).

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لاعترافهم بذنوبهم، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، عليم بندمهم وتوبتهم منها وإخلاصهم في صدقاتهم وطيب أنفسهم بها، عليم بما فيه الخير والمصلحة لهم وهو الذي يثيبهم عليها.

وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: « اللهم صلّ على فلان » فأتاه أبى بصدقته فقال « اللهم صلّ على آل أبي أوفى ».

وفي هذا إيماء إلى أن المراد بالصدقة ما يعمّ الفريضة وغيرها، وإلى أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على هذا الدعاء، ومن ثم قيل إن هذا الأمر للوجوب وهو خاصّ به صلى الله عليه وسلم.
[عدل] فوائد الصدقات في إصلاح المجتمع الإسلامي

الصدقات تطهّر أنفس الأفراد من أرجاس البخل، والدناءة والاثرة، والطمع والجشع، وتبعدهم عن أكل أموال الناس بالباطل من خيانة وسرقة وغصب وربا، وغير ذلك: فإن من يتعود بذل بعض ما في يده أو ما أودعه في خزائنه في سبيل الله ابتغاء مرضاته ومغفرة ذنوبه - يكن أرفع نفسا من أن يأخذ مال غيره بغير حق، وإذا طهرت أنفس الأفراد وزكت بالعلم والتقوى وهما ثمرة الإيمان طهرت جماعة المؤمنين من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي هي مثار التحاسد والتعادي والبغي والعدوان والفتن والحروب، فإن الأموال قوام الحياة المعيشية للفرد والمجتمع، فهي مثار التنازع والتخاصم، ومن ثم أوجب الدين على أصحاب الأموال من النفقات والصدقات ما يجعل الثروات وسيلة للسلام لا إلى الخصام.

وقد جمع الإسلام بين مصالح الروح والجسد للوصول إلى السيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، فهو وسط بين اليهودية المفرطة في حب المال، والنصرانية الروحانية الزاهدة، فمن أهمّ مقاصده الإصلاحية في الاجتماع البشرى هداية الناس إلى العدل في أمر المال ليبتعدوا عن شر طغيان الأغنياء على الفقراء، ونصوص الدين في هذا الباب هي الغاية التي لا يطمح مصلح في التطلع إلى ما بعدها، وهي هادمة لمزاعم من يفتات على الإسلام من أرباب الجهل والهوى.

وقد فرضت الزكاة المطلقة في أول الإسلام وكانت اشتراكية، والباعث عليها القلوب والضمائر لا إكراه الحكام، ثم جعلت معينة محدودة عند ما صار للإسلام دولة.

وسر الوضع الأول أن جماعة المسلمين في مكة قبل الهجرة كانوا محصورين، ومنهم الموسر والمعسر وصاحب الثروة وذو الفقر المدقع، فوجب أن يقوم أغنياؤهم بكفالة فقرائهم وجوبا دينيا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم.

ولا شك أن الأسس الإصلاحية للمال التي وضعها الإسلام لا يتسنى لأقدر الأمم المالية في العصر الحاضر أن تضع خيرا منها، انظر إليه تره حرّم الربا والقمار، لما أنهما يوجدان التنازع والتخاصم بين الناس وإن كان فيهما بعض المكاسب، وأوجب الحجر على السفهاء في أموالهم صيانة لها عن الضياع فيما يضرهم ويضر أمتهم، وفرض النفقة الزوجية والنفقة على ذوي القرابة من ذوي الحاجة، وذم الإسراف والتبذير والبخل والجشع والتقتير ومدح القصد والاعتدال في النفقة على النفس والعيال، وأباح الزينة والطيبات من الرزق بشرط اجتناب الإسراف حفظا للثروة من الضياع وبعدا عن الأمراض والأدواء البدنية، وجعل زكاة النقدين الواجبة هي ربع العشر أي 1 \ 40 % وهو أوسط ربح تدفعه المصارف المالية لمودعي نقودهم فيها للاستغلال.

انظر إلى الثروة في مصر نقدا وتجارة وتأمل مقدار ربع العشر الواجب فيها في كل عام لفقرائها ومرافقها العامة، ثم قدّر في نفسك إذا هي قامت بالواجب الديني عليها في الزكاة، هل يكون فيها فقر مدقع أو شقاء بين أفراد الأمة، هل تتصور أن تنتشر فيها الأمراض المعدية أو يخيم على أفرادها الجهل، أو ترتكب فيها جنايات السرّاق وقطاع الطرقات وذوي الخيانة والغدر، أظن أن الجواب على ذلك: لا.

وقد جاء في الكتاب والسنة الترغيب في بذل المال في سبيل البر وجعله علامة من علامات الإيمان الموجبة لثواب الرحمن والدخول في غرفات الجنان، ولم يجىء مثل ذلك في أي نوع من أنواع البر وضروب الإحسان.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي ألم يعلم أولئك التائبون من ذنوبهم أن الله هو الذي يقبل توبة التائبين من عباده، ولم يجعل ذلك لأحد من خلقه لا رسول ولا من دونه.

وفي الآية حضّ على التوبة والصدقة والترغيب فيهما.

(وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يتقبلها ويثيب عليها ويضاعف ثوابها كما وعد بذلك في قوله: « إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ».

(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى هو الذي يقبل التوبة إثر التوبة من المذنبين الذين ينيبون إلى ربهم، وأنه هو الرحيم بالتائبين الذي يثيبهم على ما قدموا من عمل، ويمنعهم الخوف أن يصرّوا على ذنب كما قال تعالى في وصف المتقين « وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ »

وجاء في الحديث « ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة » رواه الترمذي.

وروى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله »

والحديث تمثيل لحال الصدقة المقبولة عند الله.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي وقل لهم أيها الرسول اعملوا لدنياكم وآخرتكم، لأنفسكم وأمتكم، فالعمل هو مناط السعادة، لا الاعتذار عن التقصير ولا دعوى الجدّ والتشمير، وسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا، فيجب عليكم أن تراقبوه في أعمالكم وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم ونياتكم، فجدير بمن يؤمن به أن يتقيه في السر والعلن ويقف عند حدود شرعه، وسيراه رسوله والمؤمنون ويزنونه بميزان الإيمان الذي يفرق بين الإخلاص والنفاق، وهم شهداء على الناس.

روى أحمد والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان ».

وفي الآية إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان تلى مرضاة الله ورسوله.

وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: « مرّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض ».

وقال ابن عباس ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.

(وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وستردّون يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، ومن لا يخفى عليه شيء من بواطن أموركم وظواهرها فيعرفكم أعمالكم ثم يجازيكم عليها بحسن الثواب أو سوء العذاب.
[عدل] [سورة التوبة (9): آية 106]

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

تفسير المفردات

مرجون ومرجئون وبهما قرىء: أي مؤخرون، يقال أرجأت الأمر وأرجيته: أي أخرته.

المعنى الجملي

كان المتخلفون عن الجهاد في غزوة تبوك أقساما ثلاثة:

(1) المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين.

(2) المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا وزكّوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول واستغفاره فتاب الله عليهم.

(3) المؤمنون الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم لا عذر لهم، وأرجئوا توبتهم فأرجأ الله الحكم القاطع في أمرهم لأسباب ستذكر بعد.

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة، وهم مرارة ابن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والتمتع بطيب الثمار، والتفيؤ بالظلال لا شكّا ونفاقا، وكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء وأرجئت توبة هؤلاء حتى نزلت آية التوبة « لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ » إلخ.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) أي ومن المتخلفين ناس آخرون مؤخرون لحكم الله في أمرهم، وهم أولئك النفر الذين سبق ذكرهم وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الهمّ باللحاق به ولم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم كما فعل أبو لبابة وأصحابه من الذين ربطوا أنفسهم في سوارى المسجد فنزل فيهم قوله تعالى.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) الآية فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن إلى أن نزل قوله (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآية.

(إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي إن أمرهم دائر بين هذين: التعذيب والتوبة وقد أبهم الأمر عليهم وعلى الناس فلا يدرون ماذا ينزل بهم؟ هل تنفع توبتهم فيتوب الله عليهم كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أو يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة كما حكم على الخالفين من المنافقين؟

وحكمة إبهام الأمر إثارة الغم والحزن في قلوبهم لتصحّ توبتهم.

وحكمة إبهامه على الرسول والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخالطتهم، تربية للفريقين على ما يجب أن يعامل به أمثالهم ممن يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله والجهاد لاعلاء كلمة الحق ودفع عدوان أهل الباطل عن المؤمنين.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بما يصلح حال عباده ويربّيهم ويزكيهم أفرادا وجماعات، حكيم فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح إذا عملوا بها: ومن هذه الحكمة إرجاء النص على توبتهم في كتابه، كما أن تكرار تلاوتها في مختلف الأوقات مما يوقع في قلوب المؤمنين الرهبة والخوف ويفيدهم عظة وتهذيبا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابو عمار
عضو نشيط
عضو نشيط
ابو عمار


عدد المساهمات : 393
تاريخ التسجيل : 14/12/2010

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 7:31 am


[سورة التوبة (9): الآيات 107 الى 110]

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصادًا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

تفسير المفردات

الضرار والمضارّة: محاولة إيقاع الضرر، والإرصاد: الانتظار والترقب مع العداوة يقال رصدته: أي قعدت له على طريقه أترقبه، وأرصدت هذا الجيش للقتال، وهذا الفرس للطراد، ولا تقم أي لا تصلّ، والتأسيس: وضع الأساس للبناء ليقوم عليه ويرفع، والتقوى: اسم لما يرضى الله ويقى من سخطه، وشفا أي حرف والجرف (بضمتين): جانب الوادي ونحوه، والهار والهائر كالشاك والشائك: الضعيف المتداعى للسقوط، وانهار: سقط، والريبة: من الرّيب، وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة، وتقطع: أي تفرق أجزاء.

المعنى الجملي

هذه الآيات نزلت في بيان مكيدة من مكايد المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وذكرت هنا لما فيها من العبرة والعظة والذكرى بإيهام عطفها على من أرجا الله الحكم في أمرهم ليتعظ أولئك الغافلون من المؤمنين المغرورين بمسجد الضرار ومتخذيه ويخافوا أن يؤاخذوا بمشايعتهم لهم ولو بصلاتهم معهم في مسجدهم.

روي في سبب نزول الآيات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، كان قد تنصّر وقرأ علم أهل الكتاب وكان له منزلة كبيرة فيهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا واجتمع عليه المسلمون وعلت كلمة الإسلام وأظهره الله على أهل الشرك خرج فارّا إلى مكة وألبّ المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد وخاطب قومه الأنصار ليستميلهم إلى نصره فسبوه وردوه أقبح رد، ولما فرغ الناس من الموقعة فر إلى هرقل ملك الروم يستنصره فوعده وحباه وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يأوى إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموا بناءه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوه أن يصلى في مسجدهم ليكون ذلك ذريعة إلى تقريره لإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: « إنا على جناح سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله ».

ولما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم (مسجد قباء) الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من يهدمه قبل مقدمه المدينة وأمر أن يتّخذ كناسة تلقى فيها القمامة إهانة لأهله.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصادًا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ). روي أن الذين اتخذوا هذا المسجد كانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج، وقد بين الله الأغراض التي لأجلها بني، وهي:

(1) مضارة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه من مكة مهاجرا قبل وصوله إلى المدينة.

(2) تقوية الكفر وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هناك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور فيما بينهم في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيه إلى نحو أولئك من مقاصد المنافقين.

(3) التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء، وفى ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة وهي أهم مقاصد الإسلام الاجتماعية، ومن ثم كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيا لأغراض الدين ومراميه، ومن الواجب أن يصلى المسلمون الجمعة في مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فإن تفرقوا عمدا كانوا آثمين.

ومن هذا يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها الله إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولم يكن سببا لتفريق جماعتهم، فكثير من المساجد المتقاربة في القاهرة وغيرها من الأمصار الأخرى لم تبن لوجه الله بل كان الباعث على ينائها الرياء واتباع الأهواء من جهلة الأفراد والأثرياء وعدم نصح العلماء لهم.

(4) الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجىء محاربا فيجد مكانا مرصدا له، وقوما راصدين مستعدين للحرب معه، وهم أولئك المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدا لذلك.

(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الخصلة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي الرفق بالمسلمين وتيسير صلاة الجماعة على أولى العجز والضعف ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول صلى الله عليه وسلم وليصلى معهم، والله يعلم إنهم لكاذبون في إيمانهم لأنهم ما بنوه إلا للسوءى وضرار مسجد قباء.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) أي لا تقم في هذا المسجد للصلاة أبدا.

(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أي إن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه في أول يوم تقوى الله بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى - هو أحق من غيره أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين.

والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، ولكن روى أحمد ومسلم والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة، والآية لا تمنع إرادة كل من المسجدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بنى كلا من المسجدين ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه.

(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي فيه رجال يعمرونه بإقامة الصلاة وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، ويحبون أن يتطهروا بذلك مما يعلق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام، كما تطهر المتخلفون منهم من غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ويتبع العمارة المعنوية بالعكوف فيه للصلاة وغيرها - الطهارة الحسية للثوب والبدن، وطهارة الوضوء والاغتسال.

والخلاصة - إن التطهر يشمل الطهارتين النفسية والبدنية، والروايات وردت بكل منهما، والأولى إرادتهما معا.

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد لحبهم إياهما، لأنهم يرون فيهما الكمال الإنساني، فمن ثم يبغضون نجاسة البدن والثوب، وأشد منهما بغضا لهم نجاسة النفس وخبثها بالإصرار على فعل المعاصي والتخلق بذميم الأخلاق كالرياء في الأعمال إذ هو فعل المنافقين، والشح بالأموال أو بالأنفس في سبيل الله ابتغاء لمرضاته.

وحب الله إياهم من صفات كماله، إذ العالم بتفاوت الأشياء في الحسن والقبح والكمال والنقص يكون من صفاته حب الكمال والحق والخير وبغض أضدادها.

وحبه تعالى منزه عن مشابهته حبنا كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ويظهر أثر حبه لعباده في أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم كما أشار إليه الحديث القدسي الذي رواه البخاري « ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به » الحديث.

وفي معنى الآية ما جاء في عظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهن باتباع أوامره ونواهيه بما يليق بما لهن من مكانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم ذلك بقوله: « إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ».

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) هذا بيان مستأنف للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأنصاره، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسا إلى رجسهم.

والأساس على شفا الجرف الهارى، مثل يضرب لما يكون في منتهى الوهي والانحلال والإشراف على الزوال، أي أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه موطنا لراحته وهناء معيشته ويتقى به العوامل الجوية، وعدوان الكائنات الحية على أمتن الأسس وأقواها على مصابرة العواصف والسيول وصد الهوامّ والوحوش - خير بنيانا، أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاء واستمساكا فكانت عرضة للانهيار في كل حين من ليل أو نهار؟.

وقد ضرب الله مثل البنيان على تينك الصفتين لبيان حال الفريقين المتقدمين من صدق الإيمان، والنفاق والارتياب، أي أفمن كان مؤمنا صادقا يتقى الله في جميع أحواله ويبتغى مرضاته في جميع أعماله، قاصدا تزكية نفسه وإصلاح سريرته - خير أم من هو منافق مرتاب، يبتغى بأعماله الضرر والضرار وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار وتفريق جماعة المؤمنين والإرصاد لمساعدة من حارب الله ورسوله مع ما يكون لعمله في الدنيا من العار والفضيحة والخزي والبوار، وفى الآخرة من الانهيار في النار.

وخلاصة المثل - بيان ثبات الإسلام وقوته وسعادة أهله به وثمرته في أعمالهم وجزائهم عليه برضوان الله عنهم، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ووهيه وقرب زواله وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله، وبيان أن شر أعمال أهله المنافقين، ما اتخذوه من مسجد الضرار لمفاسده الأربع المتقدمة.

فالإيمان وما يلزمه من صالح العمل هو الثابت، والنفاق وما يستلزمه من فاسد العمل هو الباطل الزاهق بحكم ناموس الاجتماع وبقاء الأصلح في الوجود، وقد صدق الله وعده وثبّت المؤمنين بالقول الثابت، وهداهم إلى العمل الصالح ففتحوا البلاد وأقاموا سبل الحق والعدل، وأهلك المنافقين، وقد جرت سنته في كل زمان ومكان أن يكون الفوز حليف أهل الحق، والخيبة لأهل الباطل ما استمسكوا به، ولم يقلعوا عنه.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي مضت سنته تعالى ألا يكون الظالم مهتديا في أعماله إلى الحق والعدل ولا إلى الرحمة والفضل:

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي لا يزال بنيانهم سبب ريبة وشك في الدين، لأنهم يظهرون فيه حال قيامه ما في قلوبهم من آثار الكفر والنفاق ويدبرون أمورهم ويتشاورون في ذلك ويلقى بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا في الدين، وحين أمر صلى الله عليه وسلم بتخريبه وهدمه ثقل ذلك عليهم وعظم خوفهم وارتابوا في أمرهم: أيتركون على حالهم أم يؤمر بهم فيقتلون وتنهب أموالهم، إلى أنهم اعقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء، فلما أمر بتخريبه أصبحوا شاكين في أمره، ولأي سبب كان ذلك.

ولا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا حال تقطع القلوب أفلاذا وصيرورتها جذاذا، فتكون غير قابلة للإدراك.

وفي هذا إيماء إلى أن تمكن الريبة في قلوبهم وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ماداموا أحياء.

والخلاصة - إنه لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق واضطراب النفس وإن ذلك لا يزول ما دامت القلوب سالمة - أما إذا تفرقت قطعا وتقطعت أجزاء بقتلهم فحينئذ يسلون عنه.

وقد يكون المراد: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي والله عليم بكل شيء، حكيم في أفعاله، ومن حكمته أن بيّن حال المنافقين وأظهر ما خفي من أمرهم لتعرفوا كنه الحقيقة في ذلك.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 111 الى 112]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأصناف المقصّرين من المؤمنين، أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم البالغين فيه حد الكمال، وبذا تمّ معرفة جميع أحوال المؤمنين.

الإيضاح

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) هذا ترغيب في الجهاد على أبلغ وجه وأحسن صورة. فقد مثل الله إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سببله بتمليكهم الجنة التي هي دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي تفضلا منه تعالى وكرما - بصورة من باع شيئا هو له لآخر - وعاقد عقد البيع هو رب العزة والمبيع هو بذل الأنفس والأموال، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجعل هذا العقد مسجلا في الكتب السماوية، وناهيك به من صكّ لا يقبل التحلل والفسخ، وفى هذا منتهى الربح والفوز العظيم، وكل هذا لطف منه تعالى وتكريم لعباده المؤمنين، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها، ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها، إلا أنه تعالى غني عن أنفسهم وأموالهم والمبيع والثمن له وقد جعله بفضله وكرمه لهم.

روى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فكبّر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفى ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية، قال « نعم » فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل.

وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة اشترط لنفسك ولربك فقال: « أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قال ربح البيع لا نقيل ولا نستقبل، فنزلت الآية ».

وأخرج ابن سعد في طبقاته عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت، أن سعد ابن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال: يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم. فقال يا رسول الله اشترط علي. فقال: « تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا تنازعوا الأمر أهله، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم » قالوا نعم. قال قائل الأنصار: نعم هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ قال « الجنة والنصر ».

وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال: « انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس ابن عبد المطلب وكان ذا رأى إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال العباس ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم للمشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم: يا محمد سل لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك؟، فقال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة » فكان الشعبي إذا حدّث هذا الحديث قال: ما سمع الشيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.

وروى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا « من سل سيفا في سبيل الله فقد بايع الله »

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: « ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة »

وفي رواية « اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن. إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ».

ثم بين صفة تسليم البيع فقال:

(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي إنهم يقاتلون في سبيل الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة الله تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء في هذه السبيل، ولا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل والمثوبة عند الله، فكل منهما كان في سبيله ولم يكن رغبة في سفك الدماء، ولا حبّا للأموال ولا توسلا إلى ظلم العباد كما يفعل الذين يقاتلون لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء.

(وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي وعدهم وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا وأثبته في التوراة والإنجيل، وضياعه منهما في النسخ التي بين يدي أهل الكتاب لا يضير في ذلك لأنه قد ضاع منهما كثير وحرّف بعضهما لفظا ومعنى، ويكفى إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما.

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟) أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه.

(فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) أي فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور على ما فزتم به من الجنة.

(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وذلك الفوز الذي لا فوز أعظم منه، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك لا يعد فوزا إلا بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل.

وفي هذا الأسلوب من التأكيد واستحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى، إذ جعلهم مالكين معه ومبايعين له ومستحقين الثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده.

وعن جعفر الصادق أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.

يريد أن الذي يقتل أو يموت في سبيل الله بذل بدنه الفاني، لا روحه الباقي.

ثم وصف الله هؤلاء المكملة من المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم بجنته بصفات هي:

(1) (التَّائِبُونَ) أي هم الراجعون إلى الله بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته، وتوبة الكفار هي رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه كما قال: « فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ » وتوبة المنافق تكون بترك نفاقه، وتوبة العاصي من معصيته تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتوبة المقصّر في شيء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه، وتوبة من يغفل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره.

(2) (الْعابِدُونَ) لله المخلصون في جميع عباداتهم، فلا يتوجهون إلى سواه بدعاء ولا استغاثة ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة في الآخرة.

(3) (الْحامِدُونَ) لله في السراء والضراء، روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه الأمر يسرّه قال « الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات » وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: « الحمد لله على كل حال ».

(4) (السَّائِحُونَ) في الأرض لغرض صحيح كعلم نافع للسائح في دينه أو دنياه، أو نافع لقومه وأمته، أو النظر في خلق الله وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار وقد حث الله كثيرا على السير في الأرض والضرب فيها كما قال « أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ».

وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها.

والإسلام الذي يجيز سفر النساء في الغزوات - وهن غير مكلّفات - بالقتال للمساعدة عليه بتهيئة الطعام والشراب وتضميد الجراح فهو بالأولى يجيز صحبتهن في سائر الأسفار، وفى ذلك إحصان لكل من الزوجين ومنع لهما عن التطلع إلى الأجنبي.

وفسر بعضهم السياحة بالصيام لما روي عن عائشة: « سياحة هذه الأمة الصيام »

لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبا.

(5، 6) (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في صلواتهم المفروضة، وخصا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل لله سبحانه.

(7، Cool (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الداعون إلى الإيمان وما يتبعه من أعمال البر والخير، والناهون عن الشرك وما بسبيله من المعاصي والسيئات.

(9) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) أي الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بيّن فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه وما يحظر عليهم فعله منها، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين وأولى الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلّوا بما يجب عليهم حفظه منها.

ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال:

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين المتصفين بهذه الصفات بخيري الدنيا والآخرة.

وخصت تلك الخلال بالذكر لأن بها تكون المحافظة على حدود الله.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 113 الى 116]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)

تفسير المفردات

الأوّاه: الكثير التأوّه والتحسر، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه، وقيل إنها كلمة حبشية الأصل، ومعناها المؤمن أو الموقن، وأصل التأوه: قول أوه أو آه أو نحوهما مما يقوله الحزين أو أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها، وآه بالكسر منونا وغير منون، والحليم: الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ولا يستخفه هوى النفس، ومن لوازم ذلك الصبر والثبات والصفح والتاني في الأمور واتقاء العجلة في الرغبة والرهبة.

المعنى الجملي

كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله « لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ » فلما أصرّ على كفره تبرأ منه، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شيء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.

أخرج أحمد وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال « لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: « أي عمّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله » فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟

فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك » فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وأنزل الله في أبى طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ »

وقد كان موت أبى طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبى طالب، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين:

(1) إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.

(2) إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبى طالب، فإن التشديد على الكفار، والبراءة منهم إنما جاء في هذه السورة وفى الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: « أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربى أن أستغفر لها فلم يأذن لي، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت ».

الإيضاح

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) أي ما كان من شأن النبي ولا مما ينبغي أن يصدر منه من حيث هو نبي، ولا من شأن المؤمنين، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين.

(وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم، وكانت عاطفة القرابة تقتضى الحدب والإشفاق عليهم.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار، بأن ماتوا على الكفر، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله: « سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ »؟.

وخلاصة ذلك - إن النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين في كل حال، حتى ولو كانوا أولى قربى إذا ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب الجحيم.

ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه فقال:

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي وما استغفر إبراهيم لأبيه آزر بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي وفّقه للإيمان واهده إلى سبيله - إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله: « سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي » أي لا أملك لك هداية ولا نجاة، وإنما أملك أن أدعو الله لك.

وقد وفّى إبراهيم بما وعد، ولم يكن إلا وفيا كما شهد الله له بقوله: « وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ».

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه، قال ابن عباس، وقيل تبين له ذلك بوحي من الله فتبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى: « لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ » الآية.

ثم بين السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه مع شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله: « لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا » فقال:

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أي إن إبراهيم لكثير المبالغة في خشية الله والخضوع له، صبور على الأذى والصفح عن زلّات غيره عليه.

(وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) أي وما كان من سنن الله في خلقه ولا من رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال ويجرى عليهم أحكامه بالذم والعقاب بعد إذ هداهم إلى الإيمان، وشرح صدورهم للإسلام - بقول يصدر منهم عن غير قصد أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطئ.

(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من الأقوال والأفعال بيانا واضحا بوحي صراحة أو دلالة.

(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بجميع الأشياء، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع، حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولى القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله تعالى.

ولما منعهم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى، وذلك يستدعى التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد - بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال:

(إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي إنه تعالى مالك كل موجود، ومتولى أمره في السموات والأرض، وهو الذي يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه في التكوين، ويميت من يشاء حين انقضاء أجله، وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم، ولا من ينصركم على عدوكم غير الله تعالى، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولى القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوي الأرحام، ولا في غير ذلك من أوامره ونواهيه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ابو عمار
عضو نشيط
عضو نشيط
ابو عمار


عدد المساهمات : 393
تاريخ التسجيل : 14/12/2010

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 7:32 am


[سورة التوبة (9): الآيات 117 الى 119]

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

تفسير المفردات

العسرة: الشدة والضيق، وزاغ: مال، الرّحب: السعة، ولجأ إلى الحصن وغيره: لاذ إليه واعتصم به، الرأفة: العناية بالضعيف والرفق به، والرحمة: السعي في إيصال المنفعة.

المعنى الجملي

بعد أن استقصى سبحانه أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف - عاد مرة أخرى إلى الكلام في توبتهم جيا على سنة القرآن الكريم في تفريق الآيات في الموضوع الواحد، لأنه أفعل في النفس وأشد تأثيرا في القلب وأجدى في تجديد الذكرى وأدنى ألا يسأم التالي لها في الصلاة وغيرها. إلى أنه مناسب لما قبله من النهي عن الاستغفار للمشركين، إذا كلّ مما يتاب منه، وكلّ عثرة يطلب منها الصفح والعفو.

الإيضاح

(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) أي لقد تفضل سبحانه وعطف على نبيه وأصحابه المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار فتجاوز عن هفوات صدرت منهم في هذه الغزوة وغيرها لبلائهم الحسن فيها، ولأنهم لم يصروا على شيء منها.

وقد كانت هفواتهم على سنن الطباع البشرية واجتهاد الرأي فيما لم يبينه الله بيانا قطعيا بحيث يعد مخالفه عاصيا، وقد فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله في سياق هذه الغزوة « عفا الله عنك - لم أذنت لهم؟ » أي إن التوبة كانت من اجتهاد لم يقره الله عليه إذ غيره كان خيرا منه، وتوبة المهاجرين والأنصار، وهم خلّص المؤمنين كانت من تثاقلهم في الخروج حتى ورد الأمر الحتم والتوبيخ على التثاقل إلى الأرض، ومنهم من كان ذنبه السماع للمنافقين فيما كانوا يبغون من فتنة المؤمنين.

وتوبة الله على عباده توفيقهم للتوبة وقبولها منهم، وإنما يتوبون من ذنب، وما كل ذنب معصية لله عز وجل.

(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي الذين اتبعوه ولم يتخلفوا عنه وقت الشدة والضيق، وكانت عسرة في الزاد إذ كان الوقت نهاية فصل الصيف الذي نفدت فيه مئونتهم من التمر، وأول فصل الخريف الذي بدأ فيه إرطاب الموسم الجديد، ولا يمكن حمل شيء منه، فكان يكتفى الواحد منهم أو الاثنان بالتمرة الواحدة من التمر القديم ومنه المدوّد واليابس، ومنهم من تزوّد بالشعير المسوس والإهالة (الشحم المذاب) الزنخة المتغيرة الرائحة - وعسرة في الماء حتى كانوا ينحرون البعير على قلة الرواحل ليعتصروا الفرث الذي في كرشه ويبلّوا به ألسنتهم - وعسرة في الظهر (فى الإبل) حتى كان العشرة يتعقبون بعيرا واحدا - وعسرة في الزمن إذ كان في حرارة القيظ (شدة الحر).

قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه في ساعة العسرة: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، وقال ابن عباس لعمر رضي الله عنهم: حدّثنا من شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش شديد، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره ليعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادفع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي إنه تاب على المؤمنين كافة من بعد ما كاد يزيغ بعضهم عن الإيمان وهم الذين تخلفوا لغير علة النفاق، وهم الذين وصفهم الله بأنهم عملوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم، فقبل الله توبتهم كما ذكر فيما سلف.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) هذا تكرير للتوكيد كما يقال عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه، فيدل ذلك على أنه عفو متأكد بلغ الغاية القصوى من القدرة والكمال.

ثم علل قبول توبتهم بقوله:

(إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن ربهم رءوف رحيم بهم، فلا يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم بعد ما أبلوا في الله وأبلوا مع رسوله وصبروا في البأساء والضراء.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلّفوا عن الخروج إلى تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المرجون لأمر الله، وتقدم أنهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.

(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا خوفا من العاقبة وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم في المجالسة والمحادثة.

وهذا مثل للحيرة في الأمر، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقّرون فيه قلقا وجزعا مما هم فيه، قال قائلهم:

كأنّ فجاج الأرض وهي فسيحة على الخائف المطلوب كفّة حابل

ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم فقال:

(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي وضاقت أنفسهم على أنفسهم، لما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم بامتلائها بالهمّ والغم حتى لا متسع فيها لشيء من البسط والسرور، فكأنهم لا يجدون لأنفسهم مكانا ترتاح إليه وتطمئن به.

(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي واعتقدوا أنه لا ملجأ من غضب الله ورسوله، إلا إليه تعالى بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته، وقد أعرض عنهم رسوله البرّ الرحيم بأصحابه، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه واستغفاره - إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع في الدنيا، ولا في الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم.

(لِيَتُوبُوا) ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

(إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين، الواسع الرحمة للمحسنين، المتفضل عليهم بضروب النعم مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب.

وكان من حديث هؤلاء الثلاثة ما حدثه كعب قال: « لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّمت عليه فرد علي كالمغضب بعد ما ذكرنى وقال: « ليت شعرى ما خلّف كعبا » فقيل له ما خلّفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه فقال: « معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما » ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب أو بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع (جبل بالمدينة) أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا، وكنت كما وصفني ربى و(ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وتتابعت البشارة، فلبست ثوبى وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحنى وقال: لتهنك توبة الله، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر، أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية ».

وفي هذه القصة عبرة للمؤمنين تخشع لها قلوبهم وتفيض لها عبراتهم، وقد كان لإمام أحمد لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات.

انظر إلى هذا وتأمل قسوة قلوب الجاهلين المغرورين، الذين يقترفون الفواحش والمنكرات، ويتركون الفرائض ويصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ولا يتوبون إلى الله ولا هم يذّكرون، وإذا وعظهم الواعظ وجدهم بين جازم بالمغفرة والعفو عنه، ومتكل على شفاعة الشافعين له، ومنهم من يحفظ من أخبار مكفرات الذنوب مما لا أصل له في الدين، أو له أصل يراد به تكفير الصغائر بشرط اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اتقوا الله وراقبوه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه، وكونوا في الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب ويؤيدونه بالحلف.

أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له، اقرءوا إن شئتم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين »

وأخرج البيهقي مرفوعا « إن الصدق يهدى إلى البرّ، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، إنه يقال للصادق: صدق وبرّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا ».

ولا رخصة في الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدّت امرأته ليرضيها، أي في التحبب إليها بوصف محاسنها ورضاه عنها، لا في مصالح الدار والعيال وغيرها.

أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب أو صلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها ».

ولا شك أن في المعاريض ما يغني العاقل عن الكذب كما جاء في الحديث « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب »
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 120 الى 121]

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

تفسير المفردات

رغب في الشيء: أحبه وآثره، ورغب عنه: كرهه، وقد جمع بينهما في الآية. والظمأ: شدة العطش، والنصب: الإعياء والتعب، والمخمصة: الجوع الشديد، والغيظ: الغضب، ونيلا: أي أسرا وقتلا وهزيمة، والوادي: كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون - أكد هنا وجوب متابعة الرسول والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه.

الإيضاح

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي لا ينبغي لأهل المدينة حاضرة الإسلام ومقر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من حولهم من الأعراب كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم - أن يتخلفوا عن رسول الله، في غزو في سبيل الله كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا في غيره من شئون الأمة ومصالح الملة، ولا أن يفضّلوا أنفسهم على نفسه فيرغبوا في الراحة والسلامة ولا يبذلوها فيما يبذل فيها نفسه الشريفة، بل عليهم أن يصحبوه في البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها، ويضنّوا بها على ما سمح بنفسه عليه.

والخلاصة - إن المتخلّف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه.

وفي ذلك نهى شديد عن عملهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهيج لمتابعته صلى الله عليه وسلم بأنفة وحمّية.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) أي لم يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم من أذى وإن كان قليلا كظمأ لقلة الماء، أو نصب لبعد الشّقة، أو لقلة الظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، ومن إيذاء للعدو وإن صغر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته فيغيظه أن تمسّه أقدام المؤمنين أو حوافر خيولهم، أو النيل منه بجرح أو قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة - إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يجزى عليه بالثواب العظيم، وما أكثر هذه الأعمال الصالحات التي تشمل كل حركة من بطشة يد أو وطأة قدم أو عروض جوع أو عطش أو نحو ذلك.

وفي الآية إيماء إلى أن من قصد خيرا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشى أو كلام أو نحو ذلك مشكورا مثابا عليه، وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم، ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضّى الحرب.

ثم علل هذا الأجر العظيم بقوله:

(إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن الله لا يدع محسنا أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه - أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله، ومن ثم كتب لمن أطاعه من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الثواب على كل ما فعلوا فلم يضع لهم أجرا على عمل عملوه.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أي كذلك شأنهم فيما ينفقون في سبيل الله صغر أو كبر، قلّ أو كثر، وفى كل واد يقطعونه في سيرهم غادين أو رائحين - إلا كتب لهم أجرهم على ذلك جزاء لهم على عملهم ولا يترك شيء منه أو ينسى.

(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ليجزيهم بكتابته في صحف أعمالهم كأحسن ما يجزيهم على خير أعمالهم التي كانوا يعملونها، وهم مقيمون في منازلهم.

وخلاصة ذلك - إنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر جزاء أحسن من جزائهم على أعمالهم الجليلة في غير الجهاد بالمال والنفس، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة في غيره من أنواع المبرات، والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكبيرة فما عداه من الأعمال الصالحات.
[عدل] [سورة التوبة (9): آية 122]

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

تفسير المفردات

نفر: خرج للقتال، ولو لا: كلمة تفيد الحضّ والحث على ما يدخل عليها إذا كان مستقبلا، واللوم على تركه إذا كان ماضيا، فإن كان مما يمكن تلافيه فربما أفاد الأمر به، والفرقة: الجماعة الكثيرة، والطائفة: الجماعة القليلة، وتفقه: تكلف الفقاهة والفهم وتجشم مشاق تحصيلها، وأنذره: خوّفه، وحذره: تحرز منه.

المعنى الجملي

هذه الآية جاءت متممة لأحكام الجهاد مع بيان حكم العلم والتفقه في الدين من قبل أنه وسيلة للجهاد بالحجة والبرهان، وهو الركن الركين في الدعوة إلى الإيمان وإقامة دعائم الإسلام، ولم يشرع جهاد السيف إلا ليكون حماية وسياجا لتلك الدعوة من أن تلعب بها أيدي المعتدين من الكافرين والمنافقين.

روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما شدّد الله على المتخلفين قالوا لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فنزل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) الآية.

الإيضاح

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي وما كان شأن المؤمنين ولا مما يطلب منهم أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد، فإنه فرض كفاية متى قام به بعض سقط عن الباقين، لا فرض عين على كل شخص، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للجهاد.

(فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي فهلا نفر للقتال من كل فرقة كبيرة منهم، كأهل بلد أو قبيلة طائفة وجماعة ليتسنى لهم: أي للمؤمنين في جملتهم التفقه في الدين، بأن يتكلف الباقون في المدينة الفقاهة في الدين بما يتجدد نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات وما يكون منه صلى الله عليه وسلم من بيانها بالقول والعمل، فيعرف الحكم مع حكمته، ويوضح المجمل بالعمل به، ولينذروا قومهم الذين نفروا للقاء العدو إذا رجعوا إليهم: أي ليجعلوا أهمّ قصد لهم من الفقاهة إرشاد هؤلاء وتعليمهم، وإنذارهم عاقبة الجهل وترك العمل بما علموا، رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه، وأن يكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته والحجاج عنه وبيان أسراره للناس، لا أن يوجهوا أنظارهم إلى الرياسات والمناصب العالية والترفع عن سواد الناس وكسب المال والتشبه بالظلمة والجبارين في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا.

وفي الآية إشارة إلى وجوب التفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد لهم عند الله من سامى المراتب ما لا يقل في الدرجة عن المجاهد بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله والذود عن الدين والملة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع واجبا عينيا على كل شخص.
[عدل] [سورة التوبة (9): آية 123]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

المعنى الجملي

لما أمر سبحانه فيما سبق بقتال المشركين كافة - أرشدهم في هذه الآية إلى طريق السداد في هذا الباب، وهو أن يبدءوا بقتال من يليهم ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد وهكذا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كذلك، فقد حارب قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام، ولما فرغ صحابته من الشام دخلوا العراق وكذلك في أمر الدعوة فقد قال تعالى: « وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » ثم أمر بالدعوة العامة وقتال من يقف في طريقها من المشركين فقال: « قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ».

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي قاتلوا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ذاك أن القتال إنما شرع لتأمين الدعوة إلى الدين والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار كما قال تعالى لرسوله: « لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ».

وهذا الترتيب أولى لوجوه كثيرة: منها قلة النفقات، والحاجة فيه إلى الدواب والآلات، وسهولة معرفة حال الأقرب من الأسلحة والعسكر، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بالأبعد لا يؤمن معه من هجوم العدو على الذراري والضعفاء، ومن ثم كان هذا هو الطريق المتبع في الدعوة والنفقات والصدقات وما يدار في المجالس من شراب ونحوه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى من على يمينه وإن لم يكن أفضل الجالسين ثم الذي يليه ثم الذي يليه، وقال للأعرابي الذي كان يمديده إلى الجوانب البعيدة من المائدة « كل مما يليك ».

(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) الغلظة - مثلثة -: الشدة والخشونة، أي وليجدوا فيكم جرأة وصبروا على القتال وعنفا في القتل والأسر ونحو ذلك كما قال: « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ».

والغلظة في زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة، لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبيح.

وفي الآية إيماء إلى أنه قد يحتاج حينا إلى الرفق واللين، وأخرى إلى العنف والشدة، لا أن يقتصر على الغلظة فحسب فإن ذلك مما ينفّر ويوجب تفرق الناس عنهم، وإنما أمروا بذلك في القتال وما يتصل بالدعوة إلى الإسلام، للإرشاد إلى أنه يجب أن تكون حالهم في الأمور العامة مبنية على الرفق والعدل والتؤدة في المعاملة ومن ثم صار ذلك من أخصّ صفات المسلمين.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي واعلموا أن الله معكم بالمعونة والنصر إذا اتقيتموه وراعيتم أحكامه وسننه، وابتعدتم عن التقصير في أسباب النصر والغلب من إعداد العدة المناسبة للزمان والمكان التي عناها الله بقوله « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ » ومن الثبات والصبر، والطاعة وحسن النظام، وترك التنازع والاختلاف، وكثرة ذكر الله والتوكل عليه فيما وراء الأسباب والسنن المعروفة
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 124 الى 127]

وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيمانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه ضروبا من مخازى المنافقين كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة - ذكر هنا ضروبا أخرى من تلك المثالب كتهكمهم بالقرآن وتسللهم لو إذا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم وفى المؤمنين.

الإيضاح

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) أي وإذا أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من سور كتابه الكريم، فمن المنافقين من يقول لإخوانه على سبيل الاستهزاء هذه المقالة ليثبتوا على النفاق، أو يقول لمن يلقاه من المؤمنين مشكّكا لهم: (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيمانًا) أي يقينا بحقية القرآن والإسلام وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أيكم زادته تصديقا جازما مقترنا بإذعان النفس وخضوعها، وأشعرته بلزوم العمل بها لتيقنه بصدق الرسول الذي أنزلت عليه.

والإيمان على هذا النحو يزيد بنزول القرآن في عهد الرسول ولا سيما من يحضر نزوله ويسمعه منه، وكذا يزيد بسماعه من غيره في قلب المؤمن قوة إذعان ورغبة في العمل والقرب من الله.

قال تعالى مجيبا عن هذا السؤال مبينا حالهم وحال المؤمنين فقال:

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن زيادة اليقين واطمئنان القلب، ويزيدهم قوة في العمل به والتقرب إلى ربهم، وهم يستبشرون بنزولها لما يرجون من خير هذه الزيادة، بتزكية أنفسهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي وأما الذين في قلوبهم شك وارتياب دعاهم إلى النفاق بإسرار الكفر وإظهار الإسلام، فزادتهم كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، واستحوذ ذلك عليهم واستحكم فيهم إلى أن ماتوا على الكفر والنفاق على مقتضى سننه تعالى في تأثير الأعمال في صفات النفس وتغيير هواجس الفكر.

ثم عجّب من حالهم وقد كان لهم زاجر فيما يرون فقال:

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ؟) أي أيجهلون هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عاما بعد عام من ضروب الابتلاء والاختبار التي تظهر استعداد النفوس للإيمان والكفر والتفرقة بين الحق والباطل، وينظرون إلى الآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من نصر الله لمن اتبعه وخذلان أعدائه ووقوع ما أنذرهم به، ومن إنباء الله بما في قلوبهم وفضيحتهم بما يكتمون من أعمالهم.

(ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي ثم هم مع كل هذا تمر عليهم الأعوام تلو الأعوام ولا يتوبون من نفاقهم ولا يتعظون بما يحلّ بهم من العذاب، أفبعد هذا برهان على قلة الاستعداد للإيمان وانطفاء نور الفطرة، ولله در القائل:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم

وبعد أن بين حال تأثير إنزال السورة في المنافقين وهم غائبون عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم - بيّن حالهم وهم في مجلسه صلى الله عليه وسلم حين نزولها واستماع تلاوته لها فقال:

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس تسارقوا النظر وتغامزوا بالعيون، على حين تخشع أبصار المؤمنين وتنحنى رءوسهم، وتشاوروا في الانسلال من المجلس خفية، لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار قائلا بعضهم لبعض:

(هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) أي هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المؤمنون إذا قمتم من المجلس.

(ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي ثم انصرفوا جميعا عن مجلس الوحي متسللين لواذا كراهة منهم لسماعه وانتظارا لسنوح فرصة الغفلة عنهم، فكلما لمح أحد منهم غفلة عنه انصرف.

(صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي صرف الله قلوبهم عن الإيمان الصادق والاسترشاد بآيات كتابه إلى ما في ملكوت السموات والأرض من دلائل قدرته.

وهذه الجملة: إما إخبار بذلك، أو دعاء عليهم به، والمآل في هذه واحد في كلامه تعالى.

(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الصرف بسبب أنهم قوم فقدوا فهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال، فلا يفقهون ما يسمعون من الآيات لعدم تدبرها والتأمل في معانيها مع موافقتها للعقل وهدايتها إلى الحق والعدل. لأنهم وطّنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل، أحق هو أم باطل، أخير هو أم شر؟ وإني لمثل هؤلاء - وتلك حالهم - أن يهتدوا بنزول الآيات والسور؟.
[عدل] [سورة التوبة (9): الآيات 128 الى 129]

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

تفسير المفردات

من أنفسكم: أي من جنسكم، وعزيز: أي شاقّ، والعنت: المشقة ولقاء المكروه الشديد، والحرص: شدة الرغبة في الحصول على مفقود، وشدة عناية بموجود، والرأفة: الشفقة، والرحمة: الإحسان.

المعنى الجملي

لما أمر الله رسوله في هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خصّ بوجوه التوفيق والكرامة - ختمها بما يوجب تحملهم تلك، التكاليف فبيّن أن هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم، إلى أنه يشقّ عليه ضررهم، وتعظم رغبته في إيصال خيري الدنيا والآخرة إليهم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم عليهم، والطبيب الحاذق ربما أقدم على علاج يصعب تحمله، والأب الرحيم ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها كما قال:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم

قال أبي بن كعب رضي الله عنه: إن هاتين الآيتين آخر ما نزل من القرآن، لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب أنه قال: آخر آية نزلت « يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ » وآخر سورة نزلت براءة، وعن ابن عباس: آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلم ثمانون يوما.

الإيضاح

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم، والآية بمعنى قوله « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ».

ذاك أن منّته على قومه أعظم، وحجته بكتابه أنهض، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وقد وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب، فآمن العرب بدعوته مباشرة، وآمن العجم بدعوة العرب، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه له صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والعمل وبما شاهدوا من آيات الله في شخصه.

وقد امتنّ الله عليه وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » أي وإنه لشرف لك ولهم تذكرون به في العالم ويدوّن لكم في بطون الكتب والدفاتر.

وإنما قاومه أكابر قومه أنفه واستكبارا عن اتباعه، إذ هم يرونه دونهم - إلى أن في اتباعه إقرارا بكفرهم وكفر آبائهم الذين يفاخرون بهم، إلى أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة.

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه لأنه منكم، فليس من الهين عليه أن تكونوا في الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها والتحكم فيها، ولا أن تكونوا في الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم كما قال الله تعالى « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ».

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع الله فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه.

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريّها وربيعيها ويمانيها - يريد أن نسبه تشعب في جميع قبائل العرب وبطونها.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) أي فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به، فقل حسبي الله فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله، وقد بلّغت وما قصرت.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي عليه وحده توكلت فلا أكل أمري فيما أعجز عنه إلى غيره.

(وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) العرش مركز تدبير أمور الخلق كما قال تعالى « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره، وعظمة العرش والملك في الملأ الأعلى وفيما دونه هي مظهر عظمة الله سبحانه وتعالى، ودليل على أنه وحده الإله الحق الذي لا ينبغي أن يعبد غيره ولا يتوكل على سواه، وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم.

روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها - يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عند ما جمع المكتوب في الرقاع والأكتاف والعسب إلا عنده، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صرح بذلك في الروايات الأخرى.

فقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ - إلى قوله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدرى والله إلا إني أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها بها، فألحقت في آخر براءة.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال عمر لا أسألك عليها بينة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها.

ومن هذه الروايات يعلم أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين، إلا أنهم اختلفوا في موضعهما ففي بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وفى بعضها أنهما وضعتا بالرأي والاجتهاد، ولكن المعتمد هو الأول، لأن من حفظ التوقيف حجة على من لم يحفظ.

قال الحافظ بن حجر في شرح البخاري: إن زيدا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، وحسبك دليلا على ذلك قوله:

إنهم كانوا يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فهو صريح في أن البحث عمن كتبها فقط اهـ.

فجملة القول إن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة وإنما اختلفوا حين الجمع في موضع كتابتهما حتى شهد من شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعهما في آخر سورة براءة، وفاقا لقول أبي بن كعب وهو أحد الذين تلقّوا القرآن كله مرتبا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا زيد بن ثابت وكان عدد المختلفين في موضعهما قليلا، فلما كتبتا في المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا، ولم يروا أي اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم كابن مسعود رضي الله عنه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الاميرة سهام
مدير
مدير
الاميرة سهام


عدد المساهمات : 3142
تاريخ التسجيل : 26/11/2010
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 12:08 pm

سورة يونس

بسم الله الرحمن الرحيم
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ 1 أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ 2 إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ 3 إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ 4 هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 5 إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ 6 إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ 7 أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 8 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 9 دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 10 وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ 11 وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ 12 وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ 13 ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 14 وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15 قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ 16 فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ 17 وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ 18 وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 19 وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ 20 وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ 21 هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 22 فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 23 إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 24 وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 25 لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 26 وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 27 وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ 28 فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ 29 هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ 30 قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ 31 فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 32 كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ 33 قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 34 قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ 35 وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ 36 وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ 37 أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 38 بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 39 وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ 40 وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ 41 وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ 42 وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ 43 إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 44 وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ 45 وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ 46 وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ 47 وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 48 قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ 49 قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ 50 أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ 51 ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ 52 وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ 53 وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ 54 أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ 55 هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 56 يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ 57 قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ 58 قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ 59 وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ 60 وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ 61 أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 62 الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ 63 لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 64 وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 65 أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ 66 هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ 67 قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 68 قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ 69 مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ 70 وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ 71 فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 72 فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ 73 ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ 74 ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ 75 فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ 76 قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ 77 قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ 78 وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ 79 فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ 80 فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ 81 وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ 82 فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ 83 وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ 84 فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 85 وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 86 وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ 87 وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ 88 قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ 89 وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ 90 آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ 91 فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ 92 وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 93 فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 94 وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ 95 إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ 96 وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ 97 فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ 98 وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ 99 وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ 100 قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ 101 فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ 102 ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ 103 قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 104 وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 105 وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ 106 وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 107 قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ 108 وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ 109
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الاميرة سهام
مدير
مدير
الاميرة سهام


عدد المساهمات : 3142
تاريخ التسجيل : 26/11/2010
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 3:40 pm

تفسير سورة يونس عدد آياتها 109 ( آية 1-26 )
مكية
{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ }

يقول تعالى: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } وهو هذا القرآن، المشتمل على الحكمة والأحكام، الدالة آياته على الحقائق الإيمانية والأوامر والنواهي الشرعية، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد.

ومع هذا فأعرض أكثرهم، فهم لا يعلمون، فتعجبوا { أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } عذاب الله، وخوفهم نقم الله، وذكرهم بآيات الله.

{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } إيمانا صادقا { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي: لهم جزاء موفور وثواب مذخور عند ربهم بما قدموه وأسلفوه من الأعمال الصالحة الصادقة.

فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به، فـ { قَالَ الْكَافِرُونَ } عنه: { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } أي: بين السحر، لا يخفى بزعمهم على أحد، وهذا من سفههم وعنادهم، فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما يتعجب منه ويستغرب، وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم.

كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم، الذي بعثه الله من أنفسهم، يعرفونه حق المعرفة، فردوا دعوته، وحرصوا على إبطال دينه، والله متم نوره ولو كره الكافرون.


{ 3 - 4 } { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }



يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة، ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في أفعاله.

ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق، ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.

{ ثُمَّ } بعد خلق السماوات والأرض { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } استواء يليق بعظمته.

{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال السائلين.

فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه، وجميع الخلق مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه.

{ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق، حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.

{ ذَلِكُمْ } الذي هذا شأنه { اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال، ووصف الربوبية الجامع لصفات الأفعال.

{ فَاعْبُدُوهُ } أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية، { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الأدلة الدالة على أنه وحده المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.

فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام، وحكمه الديني وهو شرعه، الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له، ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت، فقال: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.

{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته، والذي يرى ابتداءه بالخلق، ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد. وقد ذكر الدليل النقلي فقال: { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي: وعده صادق لا بد من إتمامه { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به.

{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم، من واجبات، ومستحبات، { بِالْقِسْطِ } أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه لعباده، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بآيات الله وكذبوا رسل الله.

{ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء. { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } من سائر أصناف العذاب { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي: بسبب كفرهم وظلمهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.


{ 5 - 6 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }

لما قرر ربوبيته وإلهيته، ذكر الأدلة العقلية الأفقية الدالة على ذلك وعلى كماله، في أسمائه وصفاته، من الشمس والقمر، والسماوات والأرض وجميع ما خلق فيهما من سائر أصناف المخلوقات، وأخبر أنها آيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } و { لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }

فإن العلم يهدي إلى معرفة الدلالة فيها، وكيفية استنباط الدليل على أقرب وجه، والتقوى تحدث في القلب الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، الناشئين عن الأدلة والبراهين، وعن العلم واليقين.

وحاصل ذلك أن مجرد خلق هذه المخلوقات بهذه الصفة، دال على كمال قدرة الله تعالى، وعلمه، وحياته، وقيوميته، وما فيها من الأحكام والإتقان والإبداع والحسن، دال على كمال حكمة الله، وحسن خلقه وسعة علمه. وما فيها من أنواع المنافع والمصالح -كجعل الشمس ضياء، والقمر نورا، يحصل بهما من النفع الضروري وغيره ما يحصل- يدل ذلك على رحمة الله تعالى واعتنائه بعباده وسعة بره وإحسانه، وما فيها من التخصيصات دال على مشيئة الله وإرادته النافذة.

وذلك دال على أنه وحده المعبود والمحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام والأوصاف العظام، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يصرف خالص الدعاء إلا له، لا لغيره من المخلوقات المربوبات، المفتقرات إلى الله في جميع شئونها.

وفي هذه الآيات الحث والترغيب على التفكر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة، ويزداد الإيمان والعقل، وتقوى القريحة، وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به، وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن والقريحة.

{ 7 - 8 } { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }

يقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي: لا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون، وأعلى ما أمله المؤملون، بل أعرضوا عن ذلك، وربما كذبوا به { وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بدلا عن الآخرة.

{ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم ونهاية قصدهم، فسعوا لها وأكبوا على لذاتها وشهواتها، بأي طريق حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت ابتدروها، قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها.

فكأنهم خلقوا للبقاء فيها، وكأنها ليست دار ممر، يتزود منها المسافرون إلى الدار الباقية التي إليها يرحل الأولون والآخرون، وإلى نعيمها ولذاتها شمر الموفقون.

{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } فلا ينتفعون بالآيات القرآنية، ولا بالآيات الأفقية والنفسية، والإعراض عن الدليل مستلزم للإعراض والغفلة، عن المدلول المقصود.

{ أُولَئِكَ } الذين هذا وصفهم { مَأْوَاهُمُ النَّارُ } أي: مقرهم ومسكنهم التي لا يرحلون عنها.

{ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } من الكفر والشرك وأنواع المعاصي، فلما ذكر عقابهم ذكر ثواب المطيعين فقال:


{ 9 - 10 } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }

يقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.

{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية، فيعلمهم ما ينفعهم، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم،. ولهذا قال: { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ } الجارية على الدوام { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، والبهجة والحبور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة والإخوان، والتمتع بالاجتماع بهم، وسماع الأصوات المطربات، والنغمات المشجيات، والمناظر المفرحات. ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون.

{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.

{ و } أما { تَحِيَّتُهُمْ } فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه { سَلَامٌ } وقد قيل في تفسير قوله { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ } إلى آخر الآية، أن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في الحال.

فإذا فرغوا قالوا: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }


{ 11 } { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

وهذا من لطفه وإحسانه بعباده، أنه لو عجل لهم الشر إذا أتوا بأسبابه، وبادرهم بالعقوبة على ذلك، كما يعجل لهم الخير إذا أتوا بأسبابه { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي: لمحقتهم العقوبة، ولكنه تعالى يمهلهم ولا يهملهم، ويعفو عن كثير من حقوقه، فلو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.

ويدخل في هذا، أن العبد إذا غضب على أولاده أو أهله أو ماله، ربما دعا عليهم دعوة لو قبلت منه لهلكوا، ولأضره ذلك غاية الضرر، ولكنه تعالى حليم حكيم.

وقوله: { فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي: لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يستعدون لها، ولا يعلمون ما ينجيهم من عذاب الله، { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي: باطلهم، الذي جاوزوا به الحق والحد.

{ يَعْمَهُونَ } يترددون حائرين، لا يهتدون السبيل، ولا يوفقون لأقوم دليل، وذلك عقوبة لهم على ظلمهم، وكفرهم بآيات الله.


{ 12 } { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه إذا مسه ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره.

{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟" يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر.

{ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي: المتجاوزين للحد { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }


{ 13 - 14 } { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }

يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعد ما جاءتهم البينات على أيدي الرسل وتبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا. فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سنته في جميع الأمم.

{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ } أيها المخاطبون { خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } فإن أنتم اعتبرتم واتعظتم بمن قبلكم واتبعتم آيات الله وصدقتم رسله، نجوتم في الدنيا والآخرة.

وإن فعلتم كفعل الظالمين قبلكم، أحل بكم ما أحل بهم، ومن أنذر فقد أعذر.

{ 15 - 17 ْ} { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ْ}

يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية المبينة للحق، أعرضوا عنها، وطلبوا وجوه التعنت فقالوا، جراءة منهم وظلما: { ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ْ} فقبحهم الله، ما أجرأهم على الله، وأشدهم ظلما وردا لآياته.

فإذا كان الرسول العظيم يأمره الله، أن يقول لهم: { قُلْ مَا يَكُونُ لِي ْ} أي: ما ينبغي ولا يليق { أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ْ} فإني رسول محض، ليس لي من الأمر شيء، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ْ} أي: ليس لي غير ذلك، فإني عبد مأمور، { إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ْ} فهذا قول خير الخلق وأدبه مع أوامر ربه ووحيه، فكيف بهؤلاء السفهاء الضالين، الذين جمعوا بين الجهل والضلال، والظلم والعناد، والتعنت والتعجيز لرب العالمين، أفلا يخافون عذاب يوم عظيم؟".

فإن زعموا أن قصدهم أن يتبين لهم الحق بالآيات التي طلبوا فهم كذبة في ذلك، فإن الله قد بين من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهو الذي يصرفها كيف يشاء، تابعا لحكمته الربانية، ورحمته بعباده.

{ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا ْ} طويلا { مِنْ قَبْلِهِ ْ} أي: قبل تلاوته، وقبل درايتكم به، وأنا ما خطر على بالي، ولا وقع في ظني.

{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ْ} أني حيث لم أتقوله في مدة عمري، ولا صدر مني ما يدل على ذلك، فكيف أتقوله بعد ذلك، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا تعرفون حقيقة حالي، بأني أمي لا أقرأ ولا أكتب، ولا أدرس ولا أتعلم من أحد؟"

فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز الفصحاء، وأعيا العلماء، فهل يمكن -مع هذا- أن يكون من تلقاء نفسي، أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟

فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم، وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب، لجزمتم جزما لا يقبل الريب بصدقه، وأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولكن إذ أبيتم إلا التكذيب والعناد، فأنتم لا شك أنكم ظالمون.

{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ْ} ؟!!

فلو كنت متقولا لكنت أظلم الناس، وفاتني الفلاح، ولم تخف عليكم حالي، ولكني جئتكم بآيات الله، فكذبتم بها، فتعين فيكم الظلم، ولا بد أن أمركم سيضمحل، ولن تنالوا الفلاح، ما دمتم كذلك.

ودل قوله: { قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ْ} الآية، أن الذي حملهم على هذا التعنت الذي صدر منهم هو عدم إيمانهم بلقاء الله وعدم رجائه، وأن من آمن بلقاء الله فلا بد أن ينقاد لهذا الكتاب ويؤمن به، لأنه حسن القصد.


{ 18 ْ} { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ْ}



يقول تعالى: { وَيَعْبُدُونَ ْ} أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ْ} أي: لا تملك لهم مثقال ذرة من النفع ولا تدفع عنهم شيئا.

{ وَيَقُولُونَ ْ} قولا خاليا من البرهان: { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ْ} أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال تعالى -مبطلا لهذا القول-: { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ْ} أي: الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه، أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ْ} أي: تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ْ}


{ 19 - 20 ْ} { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ْ}

أي: { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً ْ} متفقين على الدين الصحيح، ولكنهم اختلفوا، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ْ} بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ْ} بأن ننجي المؤمنين، ونهلك الكافرين المكذبين، وصار هذا فارقا بينهم { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ْ} ولكنه أراد امتحانهم وابتلاء بعضهم ببعض، ليتبين الصادق من الكاذب.

{ وَيَقُولُونَ ْ} أي: المكذبون المتعنتون، { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ْ} يعنون: آيات الاقتراح التي يعينونها كقولهم: { لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ْ} الآيات.

وكقولهم: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ْ} الآيات.

{ فَقُلْ ْ} لهم إذا طلبوا منك آية { إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ْ} أي: هو المحيط علما بأحوال العباد، فيدبرهم بما يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة، وليس لأحد تدبير في حكم ولا دليل، ولا غاية ولا تعليل.

{ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ْ} أي: كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له، فانظروا لمن تكون العاقبة.

{ 21 ْ} { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ْ}

يقول تعالى: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ْ} كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف، نسوا ما أصابهم من الضراء، ولم يشكروا الله على الرخاء والرحمة، بل استمروا في طغيانهم ومكرهم.

ولهذا قال: { إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ْ} أي يسعون بالباطل، ليبطلوا به الحق.

{ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ْ} فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فمقصودهم منعكس عليهم، ولم يسلموا من التبعة، بل تكتب الملائكة عليهم ما يعملون، ويحصيه الله عليهم، ثم يجازيهم [الله] عليه أوفر الجزاء.


{ 22 - 23 ْ} { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ}

لما ذكر تعالى القاعدة العامة في أحوال الناس عند إصابة الرحمة لهم بعد الضراء، واليسر بعد العسر، ذكر حالة، تؤيد ذلك، وهي حالهم في البحر عند اشتداده، والخوف من عواقبه، فقال: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ْ} بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها.

{ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ْ} أي: السفن البحرية { وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ْ} موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.

{ وَفَرِحُوا بِهَا ْ} واطمأنوا إليها، فبينما هم كذلك، إذ { جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ْ} شديدة الهبوب { وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ْ} أي: عرفوا أنه الهلاك، فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده، فدَعَوُه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ووعدوا من أنفسهم على وجه الإلزام، فقالوا: { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ْ} { فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ْ} أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم، فأشركوا بالله، من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد، ولا يدفع عنهم المضايق، فهلا أخلصوا لله العبادة في الرخاء، كما أخلصوها في الشدة؟!!

ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم، ولهذا قال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ْ} أي: غاية ما تؤملون ببغيكم، وشرودكم عن الإخلاص لله، أن تنالوا شيئًا من حطام الدنيا وجاهها النزر اليسير الذي سينقضي سريعًا، ويمضي جميعًا، ثم تنتقلون عنه بالرغم.

{ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ْ} في يوم القيامة { فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ} وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.


{ 24 ْ} { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ْ}

وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها.

فذلك { كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ْ} أي: نبت فيها من كل صنف، وزوج بهيج { مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ْ} كالحبوب والثمار { و ْ} مما تأكل { الْأَنْعَامِ ْ} كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.

{ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ْ} أي: تزخرفت في منظرها، واكتست في زينتها، فصارت بهجة للناظرين، ونزهة للمتفرجين، وآية للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره.

{ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ْ} أي: حصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه.

فبينما هم في تلك الحالة { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ْ} أي: كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء.

{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ ْ} أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ْ} أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم.

وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان.

ولما ذكر الله حال الدنيا، وحاصل نعيمها، شوق إلى الدار الباقية فقال:


{ 25 - 26 ْ} { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ}

عم تعالى عباده بالدعوة إلى دار السلام، والحث على ذلك، والترغيب، وخص بالهداية من شاء استخلاصه واصطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل، وسمى الله الجنة "دار السلام" لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه.

ولما دعا إلى دار السلام، كأن النفوس تشوقت إلى الأعمال الموجبة لها الموصلة إليها، فأخبر عنها بقوله: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ْ} أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان.

فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم "الحسنى" وهي الجنة الكاملة في حسنها و "زيادة" وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون.

ثم ذكر اندفاع المحذور عنهم فقال: { وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ْ} أي: لا ينالهم مكروه، بوجه من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر.

وأما هؤلاء - فهم كما قال الله عنهم - { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم ْ} { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ْ} الملازمون لها { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ} لا يحولون ولا يزولون، ولا يتغيرون.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الاميرة سهام
مدير
مدير
الاميرة سهام


عدد المساهمات : 3142
تاريخ التسجيل : 26/11/2010
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 3:59 pm

تفسير سورة يونس عدد آياتها 109 ( آية 27-52 )
مكية
{ 27 ْ} { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ}

لما ذكر أصحاب الجنة ذكر أصحاب النار، فذكر أن بضاعتهم التي اكتسبوها في الدنيا هي الأعمال السيئة المسخطة لله، من أنواع الكفر والتكذيب، وأصناف المعاصي، فجزاؤهم سيئة مثلها أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم.

{ وَتَرْهَقُهُمْ ْ} أي: تغشاهم { ذِلَّةٌ ْ} في قلوبهم وخوف من عذاب الله، لا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم، وتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم، فتكون سوادًا في الوجوه .

{ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ْ} فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت؟!

{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ْ} { ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ْ}


{ 28 - 30 ْ} { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ْ}

يقول تعالى: { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ْ} أي: نجمع جميع الخلائق، لميعاد يوم معلوم، ونحضر المشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله.

{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ْ} أي: الزموا مكانكم ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم.

{ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ْ} أي: فرقنا بينهم، بالبعد البدني والقلبي، وحصلت بينهم العداوة الشديدة، بعد أن بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة وصفو الوداد، فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا وعداوة.

وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم وقالوا: { مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ْ} فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد.

{ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ْ} ما أمرناكم بها، ولا دعوناكم لذلك، وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك، وهو الشيطان كما قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ْ} .

وقال: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ْ}

فالملائكة الكرام والأنبياء والأولياء ونحوهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك، فحينئذ يتحسر المشركون حسرة لا يمكن وصفها، ويعلمون مقدار ما قدموا من الأعمال، وما أسلفوا من رديء الخصال، ويتبين لهم يومئذ أنهم كانوا كاذبين، وأنهم مفترون على الله، قد ضلت عبادتهم، واضمحلت معبوداتهم، وتقطعت بهم الأسباب والوسائل.

ولهذا قال تعالى: { هُنَالِكَ ْ} أي: في ذلك اليوم { تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ْ} أي: تتفقد أعمالها وكسبها، وتتبعه بالجزاء، وتجازي بحسبه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وضل عنهم ما كانوا يفترون من قولهم بصحة ما هم عليه من الشرك وأن ما يعبدون من دون الله تنفعهم وتدفع عنهم العذاب.

{ 31 - 33 ْ} { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ْ}

أي: { قل ْ} لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا - محتجًا عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الألوهية- { مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ْ} بإنزال الأرزاق من السماء، وإخراج أنواعها من الأرض، وتيسير أسبابها فيها؟

{ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ْ} أي: من هو الذي خلقهما وهو مالكهما؟، وخصهما بالذكر من باب التنبيه على المفضول بالفاضل، ولكمال شرفهما ونفعهما.

{ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ْ} كإخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى، وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة، ونحو ذلك، { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ْ} عكس هذه المذكورات، { وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ْ} في العالم العلوي والسفلي، وهذا شامل لجميع أنواع التدابير الإلهية، فإنك إذا سألتهم عن ذلك { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ْ} لأنهم يعترفون بجميع ذلك، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات.

{ فَقُلْ ْ} لهم إلزامًا بالحجة { أَفَلَا تَتَّقُونَ ْ} الله فتخلصون له العبادة وحده لا شريك له، وتخلعون ما تعبدون من دونه من الأنداد والأوثان.

{ فَذَلِكُمُ ْ} الذي وصف نفسه بما وصفها به { اللَّهُ رَبُّكُمْ ْ} أي: المألوه المعبود المحمود، المربي جميع الخلق بالنعم وهو: { الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ْ}

فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام.

{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ْ} عن عبادة من هذا وصفه، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.

فليس له من الملك مثقال ذرة، ولا شركة له بوجه من الوجوه، ولا يشفع عند الله إلا بإذنه، فتبا لمن أشرك به، وويحًا لمن كفر به، لقد عدموا عقولهم، بعد أن عدموا أديانهم، بل فقدوا دنياهم وأخراهم.

ولهذا قال تعالى عنهم: { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ْ} بعد ما أراهم الله من الآيات البينات والبراهين النيرات، ما فيه عبرة لأولي الألباب، وموعظة للمتقين وهدى للعالمين.

{ 34 - 36 ْ} { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ْ}

يقول تعالى - مبينًا عجز آلهة المشركين، وعدم اتصافها بما يوجب اتخاذها آلهة مع الله- { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ْ} أي: يبتديه { ثُمَّ يُعِيدُهُ ْ} وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير، أي: ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده، وهي أضعف من ذلك وأعجز، { قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ْ} من غير مشارك ولا معاون له على ذلك.

{ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ْ} أي: تصرفون، وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالابتداء، والإعادة إلى عبادة من لا يخلق شيئًا وهم يخلقون.

{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ْ} ببيانه وإرشاده، أو بإلهامه وتوفيقه.

{ قُلِ اللَّهُ ْ} وحده { يَهْدِي لِلْحَقِّ ْ} بالأدلة والبراهين، وبالإلهام والتوفيق، والإعانة إلى سلوك أقوم طريق.

{ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي ْ} أي: لا يهتدي { إِلَّا أَنْ يُهْدَى ْ} لعدم علمه، ولضلاله، وهي شركاؤهم، التي لا تهدي ولا تهتدي إلا أن تهدى { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ْ} أي: أيّ شيء جعلكم تحكمون هذا الحكم الباطل، بصحة عبادة أحد مع الله، بعد ظهور الحجة والبرهان، أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده.

فإذا تبين أنه ليس في آلهتهم التي يعبدون مع الله أوصافا معنوية، ولا أوصافا فعلية، تقتضي أن تعبد مع الله، بل هي متصفة بالنقائص الموجبة لبطلان إلهيتها، فلأي شيء جعلت مع الله آلهة؟

فالجواب: أن هذا من تزيين الشيطان للإنسان، أقبح البهتان، وأضل الضلال، حتى اعتقد ذلك وألفه، وظنه حقًا، وهو لا شيء.

ولهذا قال: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء أي: ما يتبعون في الحقيقة شركاء لله، فإنه ليس لله شريك أصلا عقلًا ولا نقلاً، وإنما يتبعون الظن و { إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ْ} فسموها آلهة، وعبدوها مع الله، { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ْ} .

{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ْ} وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.


{ 37 - 41 ْ} { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ْ}

يقول تعالى: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} أي: غير ممكن ولا متصور، أن يفترى هذا القرآن على الله تعالى، لأنه الكتاب العظيم الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ْ} وهو الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وهو كتاب الله الذي تكلم به ]رب العالمين[، فكيف يقدر أحد من الخلق، أن يتكلم بمثله، أو بما يقاربه، والكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه؟".

فإن كان أحد يماثل الله في عظمته، وأوصاف كماله، أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولو تنزلنا على الفرض والتقدير، فتقوله أحد على رب العالمين، لعاجله بالعقوبة، وبادره بالنكال.

{ وَلَكِنْ ْ} الله أنزل هذا الكتاب، رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين.

أنزله { تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ْ} من كتب الله السماوية، بأن وافقها، وصدقها بما شهدت به، وبشرت بنزوله، فوقع كما أخبرت.

{ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ْ} للحلال والحرام، والأحكام الدينية والقدرية، والإخبارات الصادقة.

{ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ْ} أي: لا شك ولا مرية فيه بوجه من الوجوه، بل هو الحق اليقين: تنزيل من رب العالمين الذي ربى جميع الخلق بنعمه.

ومن أعظم أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي فيه مصالحهم الدينية والدنيوية، المشتمل على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.

{ أَمْ يَقُولُونَ ْ} أي: المكذبون به عنادًا وبغيًا: { افْتَرَاهُ ْ} محمد على الله، واختلقه، { قُلْ ْ} لهم -ملزما لهم بشيء- إن قدروا عليه، أمكن ما ادعوه، وإلا كان قولهم باطلاً.

{ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ْ} يعاونكم على الإتيان بسورة مثله، وهذا محال، ولو كان ممكنًا لادعوا قدرتهم على ذلك، ولأتوا بمثله.

ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطل، لا حظ له من الحجة، والذي حملهم على التكذيب بالقرآن المشتمل على الحق الذي لا حق فوقه، أنهم لم يحيطوا به علمًا.

فلو أحاطوا به علمًا وفهموه حق فهمه، لأذعنوا بالتصديق به، وكذلك إلى الآن لم يأتهم تأويله الذي وعدهم أن ينزل بهم العذاب ويحل بهم النكال، وهذا التكذيب الصادر منهم، من جنس تكذيب من قبلهم، ولهذا قال: { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ْ} وهو الهلاك الذي لم يبق منهم أحدًا.

فليحذر هؤلاء، أن يستمروا على تكذيبهم، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين والقرون المهلكين.

وفي هذا دليل على التثبت في الأمور، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده، قبل أن يحيط به علمًا.

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ْ} أي: بالقرآن وما جاء به، { وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ْ} وهم الذين لا يؤمنون به على وجه العناد والظلم والفساد، فسيجازيهم على فسادهم بأشد العذاب.

{ وَإِنْ كَذَّبُوكَ ْ} فاستمر على دعوتك، وليس عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، لكل عمله. { فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ْ}

كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ْ}


{ 42 - 44 ْ} { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ}

يخبر تعالى عن بعض المكذبين للرسول، ولما جاء به، و أن { منهم مَنْ يَسْتَمِعُونَ ْ} إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقت قراءته للوحي، لا على وجه الاسترشاد، بل على وجه التفرج والتكذيب وتطلب العثرات، وهذا استماع غير نافع، ولا مُجدٍ على أهله خيرًا، لا جرم انسد عليهم باب التوفيق، وحرموا من فائدة الاستماع، ولهذا قال: { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ْ} وهذا الاستفهام، بمعنى النفي المتقرر، أي: لا تسمع الصم الذين لا يستمعون القول ولو جهرت به، وخصوصًا إذا كان عقلهم معدومًا.

فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام، فهؤلاء المكذبون، كذلك ممتنع إسماعك إياهم، إسماعًا ينتفعون به.

وأما سماع الحجة، فقد سمعوا ما تقوم عليهم به حجة الله البالغة، فهذا طريق عظيم من طرق العلم قد انسد عليهم، وهو طريق المسموعات المتعلقة بالخير.

ثم ذكر انسداد الطريق الثاني، وهو: طريق النظر فقال: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ْ} فلا يفيده نظره إليك، ولا سبر أحوالك شيئًا، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون، فكذلك لا تهدي هؤلاء.

فإذا فسدت عقولهم وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق؟

ودل قوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ْ} الآية، أن النظر إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهديه وأخلاقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه وصحة ما جاء به، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة.

وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ْ} فلا يزيد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.

{ وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ} يجيئهم الحق فلا يقبلونه، فيعاقبهم الله بعد ذلك بالطبع على قلوبهم، والختم على أسماعهم وأبصارهم.


{ 45 ْ} { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ْ}

يخبر تعالى، عن سرعة انقضاء الدنيا، وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه، كأنهم ما لبثوا إلا ساعة من نهار، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس، وهم يتعارفون بينهم، كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون، ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم، حيث فاتهم النعيم، واستحقوا دخول النار.


{ 46 ْ} { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ْ}

أي: لا تحزن أيها الرسول على هؤلاء المكذبين، ولا تستعجل لهم، فإنهم لا بد أن يصيبهم الذي نعدهم من العذاب.

إما في الدنيا فتراه بعينك، وتقر به نفسك.

وإما في الآخرة بعد الوفاة، فإن مرجعهم إلى الله، وسينبئهم بما كانوا يعملون، أحصاه ونسوه، والله على كل شيء شهيد، ففيه الوعيد الشديد لهم، والتسلية للرسول الذي كذبه قومه وعاندوه.


{ 47 - 49 ْ} { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ْ}

يقول تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ْ} من الأمم الماضية { رَسُولٌ ْ} يدعوهم إلى توحيد الله ودينه.

{ فَإِذَا جَاءَ ْ} هم { رَسُولُهُمْ ْ} بالآيات، صدقه بعضهم، وكذبه آخرون، فيقضي الله بينهم بالقسط بنجاة المؤمنين، وإهلاك المكذبين { وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ْ} بأن يعذبوا قبل إرسال الرسول وبيان الحجة، أو يعذبوا بغير جرمهم، فليحذر المكذبون لك من مشابهة الأمم المهلكين، فيحل بهم ما حل بأولئك.

ولا يستبطئوا العقوبة ويقولوا: { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ْ} فإن هذا ظلم منهم، حيث طلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس له من الأمر شيء، وإنما عليه البلاغ والبيان للناس.

وأما حسابهم وإنزال العذاب عليهم، فمن الله تعالى، ينزله عليهم إذا جاء الأجل الذي أجله فيه، والوقت الذي قدره فيه، الموافق لحكمته الإلهية.

فإذا جاء ذلك الوقت لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فليحذر المكذبون من الاستعجال بالعذاب، فإنهم مستعجلون بعذاب الله الذي إذا نزل لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ولهذا قال:


{ 50 - 52 ْ} { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ}

يقول تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ْ} وقت نومكم بالليل { أَوْ نَهَارًا ْ} في وقت غفلتكم { مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ْ} أي: أي بشارة استعجلوا بها؟ وأي عقاب ابتدروه؟.

{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ْ} فإنه لا ينفع الإيمان حين حلول عذاب الله، ويقال لهم توبيخًا وعتابًا في تلك الحال التي زعموا أنهم يؤمنون، { الْآنَ ْ} تؤمنون في حال الشدة والمشقة؟ { وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ْ} فإن سنة الله في عباده أنه يعتبهم إذا استعتبوه قبل وقوع العذاب، فإذا وقع العذاب لا ينفع نفسًا إيمانها، كما قال تعالى عن فرعون، لما أدركه الغرق { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} وأنه يقال له: { الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ْ} .

وقال تعالى: { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ْ} وقال هنا: { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ، آلْآنَ ْ} تدعون الإيمان { وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ْ} فهذا ما عملت أيديكم، وهذا ما استعجلتم به.

{ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ْ} حين يوفون أعمالهم يوم القيامة: { ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ْ} أي: العذاب الذي تخلدون فيه، ولا يفتر عنكم ساعة. { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ْ} من الكفر والتكذيب والمعاصي.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الاميرة سهام
مدير
مدير
الاميرة سهام


عدد المساهمات : 3142
تاريخ التسجيل : 26/11/2010
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 5:07 pm

تفسير سورة يونس عدد آياتها 109 ( آية 53-75 )
مكية
{ 53 - 56 ْ} { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ْ}

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ْ} أي: يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد، لا على وجه التبين والرشاد

{ أَحَقٌّ هُوَ ْ} أى: أصحيح حشر العباد، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر؟

{ قُلْ ْ} لهم مقسمًا على صحته، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان: { إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ْ} لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه.

{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ْ} لله أن يبعثكم، فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا، كذلك يعيدكم مرة أخرى ليجازيكم بأعمالكم.

{ و ْ} إذا كانت القيامة فـ { لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ْ} بالكفر والمعاصي جميع { مَا فِي الْأَرْضِ ْ} من ذهب وفضة وغيرهما، لتفتدي به من عذاب الله { لَافْتَدَتْ بِهِ ْ} ولما نفعها ذلك، وإنما النفع والضر والثواب والعقاب، على الأعمال الصالحة والسيئة.

{ وَأَسَرُّوا ْ} [أي] الذين ظلموا { النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ْ} ندموا على ما قدموا، ولات حين مناص، { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ْ} أي: العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه.

{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ} يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري، وسيحكم فيهم بحكمه الجزائي. ولهذا قال: { أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ْ} فلذلك لا يستعدون للقاء الله، بل ربما لم يؤمنوا به، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية.

{ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ْ} أي: هو المتصرف بالإحياء والإماتة، وسائر أنواع التدبير ، لا شريك له في ذلك.

{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ْ} يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها.

{ 57 - 58 ْ} { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ْ}

يقول تعالى - مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ْ} أي: تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها.

{ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ْ} وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.

وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.

وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.

وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ْ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.

والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.

وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.

ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ْ} الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده { وَبِرَحْمَتِهِ ْ} الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته. { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ْ} من متاع الدنيا ولذاتها.

فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب.

وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم قارون له: { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ْ} .

وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ْ}


{ 59 - 60 ْ} { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ْ}

يقول تعالى - منكرًا على المشركين، الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه -: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ْ} يعني أنواع الحيوانات المحللة، التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم. { فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ْ} قل لهم - موبخا على هذا القول الفاسد-: { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ْ} ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم، فعلم أنهم مفترون.

{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ْ} أن يفعل الله بهم من النكال، ويحل بهم من العقاب، قال تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ْ} .

{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ْ} كثير، وذو إحسان جزيل، وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون، إما أن لا يقوموا بشكرها، وإما أن يستعينوا بها على معاصيه، وإما أن يحرموا منها، ويردوا ما منَّ الله به على عباده، وقليل منهم الشاكر الذي يعترف بالنعمة، ويثني بها على الله، ويستعين بها على طاعته.

ويستدل بهذه الآية على أن الأصل في جميع الأطعمة الحل، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، لأن الله أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده.


{ 61 ْ} { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ}

يخبر تعالى، عن عموم مشاهدته، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وفي ضمن هذا، الدعوة لمراقبته على الدوام فقال: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ْ} أي: حال من أحوالك الدينية والدنيوية. { وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ْ} أي: وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك.

{ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ْ} صغير أو كبير { إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ْ} أي: وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به.

فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة، والاجتهاد فيها، وإياكم، وما يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم.

{ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ ْ} أي: ما يغيب عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته { مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ} أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه.

وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر، كثيرًا ما يقرن الله بينهما، وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث، كقوله تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ْ}

{ 62 - 64 ْ} { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}

يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال.

{ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ} على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

ثم ذكر وصفهم فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا ْ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.

فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله [تعالى] وليًا، و { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ْ}

أما البشارة في الدنيا، فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق.

وأما في الآخرة، فأولها البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ْ}

وفي القبر ما يبشر به من رضا الله تعالى والنعيم المقيم.

وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم.

{ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ْ} بل ما وعد الله فهو حق، لا يمكن تغييره ولا تبديله، لأنه الصادق في قيله، الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه.

{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ} لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور، والظفر بكل مطلوب محبوب، وحصر الفوز فيه، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى.

والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده.


{ 65 ْ} { وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ْ}

أي: ولا يحزنك قول المكذبين فيك من الأقوال التي يتوصلون بها إلى القدح فيك، وفي دينك فإن أقوالهم لا تعزهم، ولا تضرك شيئًا. { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ْ} يؤتيها من يشاء، ويمنعها ممن يشاء.

قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ْ} أي: فليطلبها بطاعته، بدليل قوله بعده: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ْ}

ومن المعلوم، أنك على طاعة الله، وأن العزة لك ولأتباعك من الله { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ْ}

وقوله: { هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ْ} أي: سمعه قد أحاط بجميع الأصوات، فلا يخفى عليه شيء منها.

وعلمه قد أحاط بجميع الظواهر والبواطن، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، في السماوات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

وهو تعالى يسمع قولك، وقول أعدائك فيك، ويعلم ذلك تفصيلا، فاكتف بعلم الله وكفايته، فمن يتق الله، فهو حسبه.


{ 66 - 67 ْ} { أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَْ}

يخبر تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا، يتصرف فيهم بما شاء من أحكامه، فالجميع مماليك لله، مسخرون، مدبرون، لا يستحقون شيئًا من العبادة، وليسوا شركاء لله بوجه الوجوه، ولهذا قال: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ْ} الذي لا يغني من الحق شيئًا { وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ْ} في ذلك، خرص كذب وإفك وبهتان.

فإن كانوا صادقين في أنها شركاء لله، فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة، فلن يستطيعوا، فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق، أو يملك شيئًا من المخلوقات، أو يدبر الليل والنهار، الذي جعله الله قياما للناس؟.

و { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ْ} في النوم والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض، فلو استمر الضياء، لما قروا، ولما سكنوا.

{ و ْ} جعل الله { النَّهَارَ مُبْصِرًا ْ} أي: مضيئًا، يبصر به الخلق، فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم.

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ْ} عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد، فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم.


{ 68 - 70 ْ} { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ْ}

يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ْ} فنزه نفسه عن ذلك بقوله: { سُبْحَانَهُ ْ} أي: تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا، ثم برهن على ذلك، بعدة براهين:

أحدها: قوله: { هُوَ الْغَنِيُّ ْ} أي: الغنى منحصر فيه، وأنواع الغنى مستغرقة فيه، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا كان غنيًا من كل وجه، فلأي شيء يتخذ الولد؟

ألحاجة منه إلى الولد، فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه.

البرهان الثاني، قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ} وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض، الجميع مخلوقون عبيد مماليك.

ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد، فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا. فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة.

البرهان الثالث، قوله: { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ْ} أي: هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا، فلو كان لهم دليل لأبدوه، فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه. وأن ذلك قول بلا علم، ولهذا قال: { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ْ} فإن هذا من أعظم المحرمات.

{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ْ} أي: لا ينالون مطلوبهم، ولا يحصل لهم مقصودهم، وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم، في الدنيا، قليلاً، ثم ينتقلون إلى الله، ويرجعون إليه، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون. { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ}

{ 71 - 73 ْ} { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ْ}

يقول تعالى لنبيه: واتل على قومك { نَبَأَ نُوحٍ ْ} في دعوته لقومه، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانًا، فتمللوا منه وسئموا، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل، ولا متوان في دعوتهم، فقال لهم: { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ ْ} أي: إن كان مقامي عندكم، وتذكيري إياكم ما ينفعكم { بِآيَاتِ اللَّهِ ْ} الأدلة الواضحة البينة، قد شق عليكم وعظم لديكم، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق. { فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ْ} أي: اعتمدت على الله، في دفع كل شر يراد بي، وبما أدعو إليه، فهذا جندي، وعدتي. وأنتم، فأتوا بما قدرتم عليه، من أنواع العَدَدَ والعُددَ.

{ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ْ} كلكم، بحيث لا يتخلف منكم أحد، ولا تدخروا من مجهودكم شيئًا.

{ و ْ} أحضروا { َشُرَكَاءَكُمْ ْ} الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين.

{ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ْ} أي: مشتبهًا خفيًا، بل ليكن ذلك ظاهرًا علانية.

{ ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ْ} أي: اقضوا علي بالعقوبة والسوء، الذي في إمكانكم، { وَلَا تُنْظِرُونِ ْ} أي: لا تمهلوني ساعة من نهار. فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء به، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه.

وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم. وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم: اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك.

فعلم أنه الصادق حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون، ولهذا قال: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ْ} عن ما دعوتكم إليه، فلا موجب لتوليكم، لأنه تبين أنكم لا تولون عن باطل إلى حق، وإنما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته، إلى باطل قامت الأدلة على فساده.

ومع هذا { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ْ} على دعوتي، وعلى إجابتكم، فتقولوا: هذا جاءنا ليأخذ أموالنا، فتمتنعون لأجل ذلك.

{ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ْ} أي: لا أريد الثواب والجزاء إلا منه، { و ْ} أيضا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده، بل { أمرت أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} فأنا أول داخل، وأول فاعل لما أمرتكم به.

{ فَكَذَّبُوهُ ْ} بعد ما دعاهم ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا، { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ْ} الذي أمرناه أن يصنعه بأعيننا، وقلنا له إذا فار التنور: فـ { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ْ} ففعل ذلك.

فأمر الله السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الأرض عيونًا، فالتقى الماء على أمر قد قدر: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ْ} تجري بأعيننا، { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ ْ} في الأرض بعد إهلاك المكذبين.

ثم بارك الله في ذريته، وجعل ذريته، هم الباقين، ونشرهم في أقطار الأرض، { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ْ} بعد ذلك البيان، وإقامة البرهان، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ْ} وهو: الهلاك المخزي، واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم، لا تسمع فيهم إلا لوما، ولا ترى إلا قدحًا وذمًا.

فليحذر هؤلاء المكذبون، أن يحل بهم ما حل بأولئك الأقوام المكذبين من الهلاك، والخزي، والنكال.


ِ{ 74 ْ} { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ْ}

أي: { ثُمَّ بَعَثْنَا ْ} من بعد نوح عليه السلام { رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ْ} المكذبين، يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم من أسباب الردى.
{ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ْ} أي: كل نبي أيد دعوته، بالآيات الدالة على صحة ما جاء به.

{ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ْ} يعني: أن الله تعالى عاقبهم حيث جاءهم الرسول، فبادروا بتكذيبه، طبع الله على قلوبهم، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ}

ولهذا قال هنا: { كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ْ} أي: نختم عليها، فلا يدخلها خير، وما ظلمهم [الله]، ولكنهم ظلموا أنفسهم بردهم الحق لما جاءهم، وتكذيبهم الأول.


{ 75 ْ} { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ ْ} إلى آخر القصة

أي: { ثُمَّ بَعَثْنَا ْ} من بعد هؤلاء الرسل، الذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين.

{ مُوسَى ْ} بن عمران، كليم الرحمن، أحد أولي العزم من المرسلين، وأحد الكبار المقتدى بهم، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة.

{ و ْ} جعلنا معه أخاه { هَارُونَ ْ} وزيرًا بعثناهما { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ْ} أي: كبار دولته ورؤسائهم، لأن عامتهم، تبع للرؤساء.

{ بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى، { فَاسْتَكْبَرُوا ْ} عنها ظلمًا وعلوًا، بعد ما استيقنوها.

{ وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ْ} أي: وصفهم الإجرام والتكذيب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الاميرة سهام
مدير
مدير
الاميرة سهام


عدد المساهمات : 3142
تاريخ التسجيل : 26/11/2010
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 5:10 pm

تفسير سورة يونس عدد آياتها 109 ( آية 76-109 )
مكية
{ 76 ْ} { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ْ}

الذي هو أكبر أنواع الحق وأعظمها، وهو من عند الله الذي خضعت لعظمته الرقاب، وهو رب العالمين، المربي جميع خلقه بالنعم.

فلما جاءهم الحق من عند الله على يد موسى، ردوه فلم يقبلوه، و { قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ْ} لم يكفهم - قبحهم الله - إعراضهم ولا ردهم إياه، حتى جعلوه أبطل الباطل، وهو السحر: الذي حقيقته التمويه، بل جعلوه سحرًا مبينًا، ظاهرًا، وهو الحق المبين. ولهذا { قَالَ ْ} لهم { مُوسَى ْ} - موبخا لهم عن ردهم الحق، الذي لا يرده إلا أظلم الناس:- { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ ْ} أي: أتقولون إنه سحر مبين.

{ أَسِحْرٌ هَذَا ْ} أي: فانظروا وصفه وما اشتمل عليه، فبمجرد ذلك يجزم بأنه الحق. { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ْ} لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فانظروا لمن تكون له العاقبة، ولمن له الفلاح، وعلى يديه النجاح. وقد علموا بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا والآخرة.


{ 78 ْ} { قَالُوا ْ} لموسى رادين لقوله بما لا يرده: { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ْ} أي: أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا، من الشرك وعبادة غير الله، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام.

وقولهم : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ْ} أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء، ولتخرجونا من أرضنا. وهذا تمويه منهم، وترويج على جهالهم، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى، وعدم الإيمان به.

وهذا لا يحتج به، من عرف الحقائق، وميز بين الأمور، فإن الحجج لا تدفع إلا بالحجج والبراهين.

وأما من جاء بالحق، فرد قوله بأمثال هذه الأمور، فإنها تدل على عجز موردها، عن الإتيان بما يرد القول الذي جاء خصمه، لأنه لو كان له حجة لأوردها، ولم يلجأ إلى قوله: قصدك كذا، أو مرادك كذا، سواء كان صادقًا في قوله وإخباره عن قصد خصمه، أم كاذبًا، مع أن موسى عليه الصلاة والسلام كل من عرف حاله، وما يدعو إليه، عرف أنه ليس له قصد في العلو في الأرض، وإنما قصده كقصد إخوانه المرسلين، هداية الخلق، وإرشادهم لما فيه نفعهم.

ولكن حقيقة الأمر، كما نطقوا به بقولهم: { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ْ} أي: تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون.

{ 79 } { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } معارضًا للحق، الذي جاء به موسى، ومغالطًا لملئه وقومه: { ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } أي: ماهر بالسحر، متقن له. فأرسل في مدائن مصر، من أتاه بأنواع السحرة، على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم.

{ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ } للمغالبة مع موسى { قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } أي: أي شيء أردتم، لا أعين لكم شيئًا، وذلك لأنه جازم بغلبته، غير مبال بهم، وبما جاءوا به.

{ فَلَمَّا أَلْقَوْا } حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، فـ { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ } أي: هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته { إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!!

وهكذا كل مفسد عمل عملاً، واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روجان في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق.

وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم.


{ 82 } { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } فألقي السحرة سجدًا حين تبين لهم الحق. فتوعدهم فرعون بالصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، فلم يبالوا بذلك وثبتوا على إيمانهم.

وأما فرعون وملؤه، وأتباعهم، فلم يؤمن منهم أحد، بل استمروا في طغيانهم يعمهون.

ولهذا قال: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } أي: شباب من بني إسرائيل، صبروا على الخوف، لما ثبت في قلوبهم الإيمان.

{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } عن دينهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ } أي: له القهر والغلبة فيها، فحقيق بهم أن يخافوا من بطشته.

{ و } خصوصًا { إِنَّهُ } كان { لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } أي: المتجاوزين للحد، في البغي والعدوان.

والحكمة -والله أعلم- بكونه ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، أن الذرية والشباب، أقبل للحق، وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم، ممن تربى على الكفر فإنهم -بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة- أبعد من الحق من غيرهم.


{ 84 } { وَقَالَ مُوسَى } موصيًا لقومه بالصبر، ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } فقوموا بوظيفة الإيمان.

{ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } أي: اعتمدوا عليه، والجؤوا إليه واستنصروه.

{ 85 } { فَقَالُوا } ممتثلين لذلك { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي: لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، أو يغلبونا، فيفتتنون بذلك، ويقولون: لو كانوا على حق لما غلبوا.
{ 86 } { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } لنسلم من شرهم، ولنقيم [على] ديننا على وجه نتمكن به من إقامة شرائعه، وإظهاره من غير معارض، ولا منازع.

{ 87 } { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ } حين اشتد الأمر على قومهما، من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم.

{ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أي: مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا، يتمكنون ]به[ من الاستخفاء فيها.

{ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي: اجعلوها محلا، تصلون فيها، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس، والبيع العامة.

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فإنها معونة على جميع الأمور، { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد، وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا، وحين اشتد الكرب، وضاق الأمر، فرجه الله ووسعه.

فلما رأى موسى، القسوة والإعراض من فرعون وملئه ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه، فقال:


{ 88 } { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً } يتزينون بها من أنواع الحلي والثياب، والبيوت المزخرفة، والمراكب الفاخرة، والخدام، { وَأَمْوَالًا } عظيمة { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ } أي: إن أموالهم لم يستعينوا بها إلا على الإضلال في سبيلك، فيضلون ويضلون.

{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } أي: أتلفها عليهم: إما بالهلاك، وإما بجعلها حجارة، غير منتفع بها.

{ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي: قسها { فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }

قال ذلك، غضبًا عليهم، حيث تجرؤوا على محارم الله، وأفسدوا عباد الله، وصدوا عن سبيله، ولكمال معرفته بربه بأن الله سيعاقبهم على ما فعلوا، بإغلاق باب الإيمان عليهم.

{ 89 } { قَالَ } الله تعالى { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } هذا دليل على أن موسى، [كان] يدعو، وهارون يؤمن على دعائه، وأن الذي يؤمن، يكون شريكا للداعي في ذلك الدعاء.

{ فَاسْتَقِيمَا } على دينكما، واستمرا على دعوتكما، { وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي: لا تتبعان سبيل الجهال الضلال، المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم، فأمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل ليلاً، وأخبره أنهم يتبعون، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين يقولون: { إِنَّ هَؤُلَاءِ } أي: موسى وقومه: { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ }

فجمع جنوده، قاصيهم ودانيهم، فأتبعهم بجنوده، بغيًا وعدوًا أي: خروجهم باغين على موسى وقومه، ومعتدين في الأرض، وإذا اشتد البغي، واستحكم الذنب، فانتظر العقوبة.


{ 90 } { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } وذلك أن الله أوحى إلى موسى، لما وصل البحر، أن يضربه بعصاه، فضربه، فانفلق اثنى عشر طريقًا، وسلكه بنو إسرائيل، وساق فرعون وجنوده خلفه داخلين.

فلما استكمل موسى وقومه خارجين من البحر، وفرعون وجنوده داخلين فيه، أمر الله البحر فالتطم على فرعون وجنوده، فأغرقهم، وبنو إسرائيل ينظرون.

حتى إذا أدرك فرعون الغرق، وجزم بهلاكه { قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } وهو الله الإله الحق الذي لا إله إلا هو { وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى.


{ 91 } قال الله تعالى - مبينا أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له-: { آلْآنَ } تؤمن، وتقر برسول الله { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } أي: بارزت بالمعاصي، والكفر والتكذيب { وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله، أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم، لأن إيمانهم، صار إيمانًا مشاهدًا كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع، إنما هو الإيمان بالغيب.


{ 92 } { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً }

قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما في قلوبهم من الرعب العظيم، من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشكوا في ذلك، فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية.

{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها، لعدم إقبالهم عليها.

وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرت به الرسل.


{ 93 } { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ }

أي: أنزلهم الله وأسكنهم في مساكن آل فرعون، وأورثهم أرضهم وديارهم.

{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المطاعم والمشارب وغيرهما { فَمَا اخْتَلَفُوا } في الحق { حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } الموجب لاجتماعهم وائتلافهم، ولكن بغى بعضهم على بعض، وصار لكثير منهم أهوية وأغراض تخالف الحق، فحصل بينهم من الاختلاف شيء كثير.

{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } بحكمة العدل الناشئ عن علمه التام، وقدرته الشاملة، وهذا هو الداء، الذي يعرض لأهل الدين الصحيح.

وهو: أن الشيطان إذا أعجزوه أن يطيعوه في ترك الدين بالكلية، سعى في التحريش بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، فحصل من الاختلاف ما هو موجب ذلك، ثم حصل من تضليل بعضهم لبعض، وعداوة بعضهم لبعض، ما هو قرة عين اللعين.

وإلا فإذا كان ربهم واحدًا، ورسولهم واحدًا، ودينهم واحدًا، ومصالحهم العامة متفقة، فلأي شيء يختلفون اختلافًا يفرق شملهم، ويشتت أمرهم، ويحل رابطتهم ونظامهم، فيفوت من مصالحهم الدينية والدنيوية ما يفوت، ويموت من دينهم، بسبب ذلك ما يموت؟.

فنسألك اللهم، لطفًا بعبادك المؤمنين، يجمع شملهم ويرأب صدعهم، ويرد قاصيهم على دانيهم، يا ذا الجلال والإكرام.


{ 94 - 95 } { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } هل هو صحيح أم غير صحيح؟.

{ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } أي: اسأل أهل الكتب المنصفين، والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته لما معهم، فإن قيل: إن كثيرًا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه، وردوا عليه دعوته.

والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به، وبرهانًا على صدقه، فكيف يكون ذلك؟

فالجواب عن هذا، من عدة أوجه:

منها: أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة، أو أهل مذهب، أو بلد ونحوهم، فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم.

وأما من عداهم، فلو كانوا أكثر من غيرهم فلا عبرة فيهم، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين، كـ "عبد الله بن سلام" [وأصحابه وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، ومن بعده] و "كعب الأحبار" وغيرهما.

ومنها: أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه.

فإذا كان موجودًا في التوراة، ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد له بالصحة، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به الرسول.

ومنها: أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه، وأظهر ذلك وأعلنه على رءوس الأشهاد.

ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله، لأبدوه وأظهروه وبينوه، فلما لم يكن شيء من ذلك، كان عدم رد المعادي، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه.

ومنها: أنه ليس أكثر أهل الكتاب، رد دعوة الرسول، بل أكثرهم استجاب لها، وانقاد طوعًا واختيارًا، فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل كتاب .

فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام، ومصر، والعراق، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب، ولم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق، ومن تبعهم من العوام الجهلة، ومن تدين بدينهم اسمًا لا معنى، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل، وإنما انتسبوا للدين المسيحي، ترويجًا لملكهم، وتمويهًا لباطلهم، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة.

وقوله: { لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ } أي: الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال: { مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله تعالى: { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ }

(95) { وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وحاصل هذا أن الله نهى عن شيئين: الشك في هذا القرآن والامتراء فيه.

وأشد من ذلك، التكذيب به، وهو آيات الله البينات التي لا تقبل التكذيب بوجه، ورتب على هذا الخسار، وهو عدم الربح أصلاً، وذلك بفوات الثواب في الدنيا والآخرة، وحصول العقاب في الدنيا والآخرة، والنهي عن الشيء أمر بضده، فيكون أمرًا بالتصديق التام بالقرآن، وطمأنينة القلب إليه، والإقبال عليه، علمًا وعملاً.

فبذلك يكون العبد من الرابحين الذين أدركوا أجل المطالب، وأفضل الرغائب، وأتم المناقب، وانتفى عنهم الخسار.


{ 96 - 97 } { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }

يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي: إنهم من الضالين الغاوين أهل النار، لا بد أن يصيروا إلى ما قدره الله وقضاه، فلا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية، فلا تزيدهم الآيات إلا طغيانا، وغيا إلى غيهم.

وما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم بردهم للحق، لما جاءهم أول مرة، فعاقبهم الله، بأن طبع على قلوبهم وأسماعهم، وأبصارهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، الذي وعدوا به.

فحينئذ يعلمون حق اليقين، أن ما هم عليه هو الضلال، وأن ما جاءتهم به الرسل هو الحق. ولكن في وقت لا يجدي عليهم إيمانهم شيئًا، فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم، ولا هم يستعتبون، وأما الآيات فإنها تنفع من له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

{ 98 } { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }

يقول تعالى: { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ْ} من قرى المكذبين { آمَنَتْ ْ} حين رأت العذاب { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ْ} أي: لم يكن منهم أحد انتفع بإيمانه، حين رأى العذاب، كما قال تعالى عن فرعون ما تقدم قريبًا، لما قال: { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} فقيل له { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ْ}

وكما قال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ْ}

وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا ْ}

والحكمة في هذا ظاهرة، فإن الإيمان الاضطراري، ليس بإيمان حقيقة، ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى الإيمان، لرجع إلى الكفران.

وقوله: { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ْ} بعدما رأوا العذاب، { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} فهم مستثنون من العموم السابق.

ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة، لم تصل إلينا، ولم تدركها أفهامنا.

قال الله تعالى: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ْ} إلى قوله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ْ} ولعل الحكمة في ذلك، أن غيرهم من المهلكين، لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.

وأما قوم يونس، فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر، [بل قد استمر فعلا وثبتوا عليه] والله أعلم.


{ 99 - 100 } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ }

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ْ} بأن يلهمهم الإيمان، ويوزع قلوبهم للتقوى، فقدرته صالحة لذلك، ولكنه اقتضت حكمته أن كان بعضهم مؤمنين، وبعضهم كافرين.

{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ْ} أي: لا تقدر على ذلك، وليس في إمكانك، ولا قدرة لغير الله [على] شيء من ذلك.

{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ْ} أي: بإرادته ومشيئته، وإذنه القدري الشرعي، فمن كان من الخلق قابلاً لذلك، يزكو عنده الإيمان، وفقه وهداه.

{ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ْ} أي: الشر والضلال { عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ْ} عن الله أوامره ونواهيه، ولا يلقوا بالا لنصائحه ومواعظه.


{ 101 - 103 } { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ }

يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات والأرض، والمراد بذلك: نظر الفكر والاعتبار والتأمل، لما فيها، وما تحتوي عليه، والاستبصار، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وعبرًا لقوم يوقنون، تدل على أن الله وحده، المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأسماء والصفات العظام.

{ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ْ} فإنهم لا ينتفعون بالآيات لإعراضهم وعنادهم.

{ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ْ} أي: فهل ينتظر هؤلاء الذين لا يؤمنون بآيات الله، بعد وضوحها، { إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ْ} أي: من الهلاك والعقاب، فإنهم صنعوا كصنيعهم وسنة الله جارية في الأولين والآخرين.

{ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ْ} فستعلمون من تكون له العاقبة الحسنة، والنجاة في الدنيا والآخرة، وليست إلا للرسل وأتباعهم.

ولهذا قال: { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ْ} من مكاره الدنيا والآخرة، وشدائدهما.

{ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا ْ} أوجبناه على أنفسنا { نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ْ} وهذا من دفعه عن المؤمنين، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإنه -بحسب ما مع العبد من الإيمان- تحصل له النجاة من المكاره.


{ 104 - 106 } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين، وإمام المتقين وخير الموقنين: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ْ} أي: في ريب واشتباه، فإني لست في شك منه، بل لدي العلم اليقيني أنه الحق، وأن ما تدعون من دون الله باطل، ولي على ذلك، الأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة.

ولهذا قال: { فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ْ} من الأنداد، والأصنام وغيرها، لأنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تدبر شيئًا من الأمور، وإنما هي مخلوقة مسخرة، ليس فيها ما يقتضي عبادتها.

{ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ْ} أي: هو الله الذي خلقكم، وهو الذي يميتكم، ثم يبعثكم، ليجازيكم بأعمالكم، فهو الذي يستحق أن يعبد، ويصلى له ويخضع ويسجد.

{ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ْ} أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله، وأقم جميع شرائع الدين حنيفًا، أي: مقبلاً على الله، معرضًا عما سواه، { وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ْ} لا في حالهم، ولا تكن معهم.

(106) { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ْ} وهذا وصف لكل مخلوق، أنه لا ينفع ولا يضر، وإنما النافع الضار، هو الله تعالى.

{ فَإِنْ فَعَلْتَ ْ} بأن دعوت من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك { فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ْ} أي: الضارين أنفسهم بإهلاكها، وهذا الظلم هو الشرك كما قال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ْ} فإذا كان خير الخلق، لو دعا مع الله غيره، لكان من الظالمين المشركين فكيف بغيره؟!!

{ 107 } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }

هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار، المعطي المانع، الذي إذا مس بضر، كفقر ومرض، ونحوها { فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } لأن الخلق، لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدا، لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله، ولهذا قال: { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } أي: لا يقدر أحد من الخلق، أن يرد فضله وإحسانه، كما قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }

{ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي: يختص برحمته من شاء من خلقه، والله ذو الفضل العظيم، { وَهُوَ الْغَفُورُ } لجميع الزلات، الذي يوفق عبده لأسباب مغفرته، ثم إذا فعلها العبد، غفر الله ذنوبه، كبارها، وصغارها.

{ الرَّحِيمِ } الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغنى عن إحسانه، طرفة عين، فإذا عرف العبد بالدليل القاطع، أن الله، هو المنفرد بالنعم، وكشف النقم، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات، وأن أحدًا من الخلق، ليس بيده من هذا شيء إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.

ولهذا -لما بين الدليل الواضح قال بعده:-

{ 108 - 109 } { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }

أي: { قُلْ } يا أيها الرسول، لما تبين البرهان { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: الخبر الصادق المؤيد بالبراهين، الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه، وهو واصل إليكم من ربكم الذي من أعظم تربيته لكم، أن أنزل إليكم هذا القرآن الذي فيه تبيان لكل شيء، وفيه من أنواع الأحكام والمطالب الإلهية والأخلاق المرضية، ما فيه أعظم تربية لكم، وإحسان منه إليكم، فقد تبين الرشد من الغي، ولم يبق لأحد شبهة.

{ فَمَنِ اهْتَدَى } بهدى الله بأن علم الحق وتفهمه، وآثره على غيره فلِنَفْسِهِ والله تعالى غني عن عباده، وإنما ثمرة أعمالهم راجعة إليهم.

{ وَمَنْ ضَلَّ } عن الهدى بأن أعرض عن العلم بالحق، أو عن العمل به، { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ولا يضر الله شيئًا، فلا يضر إلا نفسه.

{ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } فأحفظ أعمالكم وأحاسبكم عليها، وإنما أنا لكم نذير مبين، والله عليكم وكيل. فانظروا لأنفسكم، ما دمتم في مدة الإمهال.

{ وَاتَّبَعَ } أيها الرسول { مَا يُوحَى إِلَيْكَ } علمًا، وعملاً، وحالاً، ودعوة إليه، { وَاصْبِرْ } على ذلك، فإن هذا أعلى أنواع الصبر، وإن عاقبته حميدة، فلا تكسل، ولا تضجر، بل دم على ذلك، واثبت، { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ } بينك وبين من كذبك { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } فإن حكمه، مشتمل على العدل التام، والقسط الذي يحمد عليه.

وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، وثبت على الصراط المستقيم، حتى أظهر الله دينه على سائر الأديان، ونصره على أعدائه بالسيف والسنان، بعد ما نصره [الله] عليهم، بالحجة والبرهان، فلله الحمد، والثناء الحسن، كما ينبغي لجلاله، وعظمته، وكماله وسعة إحسانه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الاميرة سهام
مدير
مدير
الاميرة سهام


عدد المساهمات : 3142
تاريخ التسجيل : 26/11/2010
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالثلاثاء أبريل 26, 2011 5:21 pm

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ريماس
عضو مميز
عضو مميز
ريماس


عدد المساهمات : 124
تاريخ التسجيل : 28/01/2011
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالسبت أبريل 30, 2011 9:45 am


ســــــــــــــــورة هــــــــــــــــود

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ريماس
عضو مميز
عضو مميز
ريماس


عدد المساهمات : 124
تاريخ التسجيل : 28/01/2011
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 12:46 pm

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ريماس
عضو مميز
عضو مميز
ريماس


عدد المساهمات : 124
تاريخ التسجيل : 28/01/2011
العمر : 35

دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا    دعوة كريمه  لمن علمونا معنى الكرم  اعضاء اصحابنا   - صفحة 4 Icon_minitimeالسبت يوليو 02, 2011 3:50 am

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
دعوة كريمه لمن علمونا معنى الكرم اعضاء اصحابنا
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 4 من اصل 4انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4
 مواضيع مماثلة
-
» مذكرات اصحابنا
» لكل اعضاء هذا المكان
» تيموا...مرحبا بك في اصحابنا
» دعوة للحب ......
» دعوة للنهوض ...

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ملتقـى اصحابنـا :: ااقسم الاسلامــي :: نــور من الاسلام-
انتقل الى: