المشهد الليبي يلخص حال العرب عموما
في مأزقه الأخير، وفي مواجهة الشعب الثائر، صرّح الحاكم الليبي المستبدّ المتألّه بحقيقة ما نعرفه مسبقاً عن موقفه من ليبيا ومن شعبها، فعبّر علناً بكلمات مروّعة عن قناعته بأنّ ليبيا ليست سوى حقل نفط يدرّ عشرات مليارات الدولارات، وأنّ شعبها ليس سوى قطيع ينبغي عليه أن يخضع لعملية ترويض مستمرّة بلا نهاية، تبقيه في حالة غير آدمية، منفصلاً عن ثروته ووطنه، ومسلّماً بتغييبه ويأسه.
لقد وصف القذافي الشعب الليبي بأبشع الأوصاف، واتهم شبابه بأفظع الاتهامات، وهو الذي يحكم هذا الشعب، ويا للعجب، حكماً مطلقاً منذ أربعة عقود، ثمّ لم يتردّد في الإعلان عن استعداده لإبادته "كما تباد الجرذان والجراثيم حسب تعبيراته" إذا ما اقتضى الأمر ذلك، أي إذا لم يعد القطيع إلى الحظيرة طوعاً، فكان ذلك كافياً كي يدرك من لم يدرك بعد أنّ ليبيا تدار من الخارج، بوساطة حكم ذاتي يفصل بين شعبها وبين وطنه، ويجعله مجرّد سكّان منطقة مدارة يقيمون على أرضها ولا يملكون شيئاً من أمرها، وهكذا يكون القذافي قد برهن بالدليل القاطع، لمن لا يزال يحتاج إلى أدلّة قاطعة، أنّه منفصل عن شعبه تماماً، وأنّه لا يملك إرادته الذاتية، ولا أمواله ولا نفطه، ولا يدين بوجوده على رأس السلطة الباغية المطلقة لذاته ولا لجيشه، ولا لشعبه بالطبع، بل يدين لقوى خارجية تمدّه بأسباب الحياة والقوة والبقاء.
إنّ المشهد الليبي الفظيع، الذي تابعنا فصوله في الأيام الماضية بعيون وآذان تكاد لا تصدّق ما ترى وما تسمع، لا يقتصر على ليبيا وحدها، بل هو حال العرب عموماً في جميع أقطارهم وأمصارهم، إنّما ملخص ومكثف ومركّز في المشهد الليبي، وإنّه ليتوجّب علينا استخلاص المعطيات الأهمّ التي قدّمتها لنا الثورة الليبية، ومن قبلها التونسية والمصرية، وهي أنّ البلاد العربية جميعها أشبه بمناطق مدارة.
إنّ الحكم الذاتي للمناطق المدارة ينوب عن المستعمرين، فيوفّر عليهم تكاليف الاحتلال العسكري المباشر، ويعفيهم من مشقّة التعامل اليومي الصعب والخطر مع السكان "الأصليين المتوحشين"، غير أنّ الحكم الذاتي يصعب تحقيقه إلاّ في دويلات مصنوعة من أشلاء وطن مقسّم وأمة ممزّقة، وبالتالي فإنّه لمن البديهي الاستنتاج أنّ خلاص أيّ قطر عربي لا يمكن أن يكون منفرداً، بمعزل عن خلاص أشقائه.
إنّ استكمال الخلاص الجمعي، أي استرداد وحدة الأمة، هو الاستقلال الحقيقي بالضبط، وهو ما يبدو أنّ شباب الأمة يستوعبونه جيّداً، ويعملون على أساسه اليوم، حيث الثورات السلمية، إنّما الفعالة، تتوالى وتتناغم وتتوازى في مجمل الأقطار العربية.
وواقع الحال أنّ البلاد العربية جميعها كانت محتلة من قبل الجيوش الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين. أمّا بعضها الذي لم يكن محتلاً فقد كان تابعاً للأجانب بموافقة حكوماته، كما كان حال بعض بلدان الجزيرة العربية والخليج الفارسي. وعندما بدأ العصر الأميركي، بعد الحرب العالمية الثانية، صار مطلوباً تعميم وضعية تلك البلدان على جميع البلاد العربية، فبدأت "الاستقلالات" الشكلية للدويلات المصطنعة، ليس الاستقلال عن الاستعمار، بل عن بعضها البعض، وذلك في معرض التحوّل إلى حالة التبعية بموافقة الحكومات العربية، حسب السياسة الاستعمارية الأميركية الجديدة، أي سياسة المناطق المدارة بحكم ذاتي نيابة عن المستعمرين، ثمّ كانت ظاهرة الحكم المطلق والحكّام المتألهين الخالدين.
لقد حرمت الأمة العربية، في مرحلة "الاستقلالات" الشكلية الوهمية، في العصر الأميركي، من تحقيق أيّ قدر من الحضور الحقيقي، الطبيعي، تحت أي عنوان من العناوين التاريخية التي تعطيها الحقّ في الحضور، فأصبحت الحدود سدوداً والأوطان سجوناً. وصار مجرّد الحديث عن مجرّد فتح الحدود، وليس عن استرداد وحدة الأرض والأمة، يدخل في باب المحرّمات. وكذلك صار حال الثروات العربية الثمينة، وفي مقدمتها النفط، التي خضعت أيضاً لإرادة الدوائر الاستعمارية الحديثة، وها هنا توجّب على الإدارة الذاتية للمناطق المدارة أن تسهر وتجهد كي تبقى الصلة واهية، بل معدومة، بين السكان وأرضهم، وبين السكان في هذا البلد وأشقائهم سكان البلد المجاور، وإنّ هذا هو عين ما عمل على تحقيقه القذافي طيلة عهده الذي امتدّ أكثر من أربعين عاماً، وكذلك أمثاله من الحكّام، ليأخذوا مقابله حقّ الحكم حتى الموت.
لكنّ المثير في الأمر هو أنّ الحكّام الانفصاليين ظلّوا يلحّون على وحدة الأمة بمقدار إيغالهم في الانعزال والانفصال، وبمقدار تدعيمهم لكياناتهم القطرية وتعزيز مواقعهم فيها، ولعلّ القذافي كان أبرزهم في هذا الميدان، حيث ذهب بعيداً جداً في طروحاته ومشاريعه الوحدوية، إنّما بطرق حوّلت القضية المصيرية إلى مهزلة، وإنّه لمن الصعب أن نجد بين الذين يجاهرون بانفصاليتهم عن عقيدة من أضرّ بقضية الوحدة العربية كما أضرّ بها القذافي، الذي شاهدناه في مأزقه الأخير يخوض معركة مصيره على أسس قبلية، وعلى أسس جهويّة أو مناطقية، مفرّطاً بالوحدة القطرية للشعب الليبي والأرض الليبية.
لقد نجحت الإدارات الأميركية الصهيونية، على مدى الستين عاماً الماضية، في جعل أوضاع العرب أكثر تعقيداً وتردياً وفساداً وتخلّفاً مما كانت عليه في عهود الاحتلال العسكري الاستعماري المباشر، خاصة ما يتعلّق منها بإرادتهم المستقلّة، حتى لقد خيّل للبعض أنّ الأمة فقدت نهائياً روحها وإرادتها، وبالتالي قدرتها على النهوض من جديد، لكنّ المقاومة المسلّحة في السنوات الأخيرة، والانتفاضات الثورية السلمية في الأشهر الأخيرة، كشفت عن بلوغ الحقبة الأميركية الصهيونية نهاياتها، وعن أنّ الأمة العربية لم تفقد شيئاً من روحها الخلاّقة الكامنة، وأنها أصبحت قريبة جدّاً من لحظة نهوضها التاريخي العظيم.
*العرب اونلاين