ودّ حين ناوله إبراهيم غليونه محشواً بالتبغ لينفّس به عن ألمه لو يدعه يتصرّف كطفل فيبكي.. إنه يشعر بالدموع تنبجس وتغرق عينيه، فيدير رأسه ويمسحها خفية بطرف كمه، ويروح يداري ألمه الخجول بأن يمدّ رأسه من فوق المتاريس، ثم يلتفت لرفاقه فيجد في سكوتهم تفجّعاً يدفع الدمع إلى عينيه ثانية، ويرى في كل شيء في هذا الليل الصامت الذي يطل عليه هلال غائم بعيد، ألماً يجسّد انسحاقه.. وكأن كل ما في الكون يدري بأن له حكاية، وأن أكثر ما يشتهيه في هذه اللحظة أن يمارس ترف الحزن بتلقائية، فهو الساعة أضعف من أن يصطنع أي جبروت، وأكثر ما يريده هو أن ينفضّ أخوانه من حوله قليلاً ليعود إنساناً يخلع قناع الصلابة ويبكي، يبكي بلا خجل. ورفع كمه يمسح عينيه وأحسّ بخيوط القميص الصوفي تخدش عينيه.. وتذكره بتعويذتها التي يلبسها والتي سترد عنه – كما قالت – كل رصاصة غدارة.أجل إنه يتذكّر تلك الليلة...ليلةٌ كهذه هلالها صغير، وبردها يقرص الأجساد، وكان مكلّفاً بحراسة مستشفى صغير أقامه جيش الإنقاذ في بيت من بيوت المدينة مؤلف من أربع غرف حجرية وحديقة صغيرة، وكانت أسرة المستشفى الثمانية مشغولة بثمانية جرحى حملهم أخوانهم بعد معركة انصبت النار فيها من مستعمرة نهاريا اليهودية، على القرى العربية في قضاء عكا وأحضروهم ليُسعفوا بالمستشفى. ثم اختارته لجنة الانضباط ليقوم بحراسة المستشفى الواقع في طرف من أطراف المدينة تفّرقت فيه البيوت وتباعدت. أجل باردة كانت الليلة، ولم تحمه كوفيته ولا معطفه السميك من وخزات البرد اللاذع، فكان ما يفتأ يتمشّى ليمنع الدم من أن يتخثّر في شرايينه، ثم يعود إذا تعب ليتّكئ إلى جدار المستشفى قريباً من الباب، ويرقب من بعيد دور المدينة التي تنام نوماً تهدّده أية غارة مفاجئة، ولا يدري كم كانت الساعة بالضبط فقد خبتت الأنوار إلا تلك التي تتوّج أعمدة الطرق العامة، وسكت الليل إلاّ من أصوات ابن آوى، هذه التي تبلغه من بعيد...أجل لا يدري كم كانت الساعة بالضبط حين شعر بها إلى جانبه في ثياب التمريض البيضاء تسأله إذا كان يريد فنجاناً من الشاي، إنه لم يفكّر في الشاي ولا في أي شيء آخر...ولكنه أحس بأنه يريد أي جسم حار يشد إليه أصابعه المقرورة. فقبل شاكراً. ولما عادت تحمله إليه، جرعه في أربع رشفات حتى لا يدعها تنتظر طويلاً، ولما ردّه إليها فارغاً غمغم بكلمة شكر، ولكنه فكّر بعد أن انسحبت بانه كان من المناسب أن يلاطفها بسؤال، وأدار رأسه يبحث عن ظلها خلف النافذة ولكنها لم تلح. وفكّر في أن يشكرها في الصباح.. ولكن من عساها تكون؟ . إن هناك ممرضتين، وهو لم ير منها إلاّ بياض ثوبها. ولكنه في الليلة الثانية عزم أن يكون أكثر طراوة لو حملت له الشاي... وانتظر طويلاً ولكنها لم تحضر.. وقال في نفسه إنها مشغولة عن شايه بمن هم أحوج إلى عطفها.. فلماذا لا يطرق الباب ويطلب الشاي بنفسه؟ واستحيا أن يفعل. وقد كره ، يكون متطفلاً على وجه ما.. ها قد خبت الأنوار ونامت المدينة وحمّلته وأخوانه مسؤولية السهر. وفي مثل هذا الوقت بالأمس شرب شايها... ورفع أصابعه التي أثلجتها ماسورة البندقية واشتهى شيئاً حاراً يبعث فيها الحرارة.. ورفع يده إلى فمه لينفخ فيها، وإذ بشبحها الأبيض يجبهه بصوتها يقول: لقد أحضرت لك شايك دون سؤال.. لن ترفضه بالطبع..ورفع عينه وحدّق في وجهها..ومدّ يده المقرورة ليحمل الفنجان .. ورأى من اللياقة أن يقول لها شيئاً قبل أن يشرب..- ألا تجدين المهمة شاقة عليك؟وفي حدّة لم يتوقعها ردّت عليه:- هل تجدني أضعف من الواجب؟- أنا .. لا لا لا أبداً..ومن لم يدر ما يقول، فرفع الفنجان إلى شفتيه، وجرعه بسرعة سلقت حلقه .. وأعاده إليها دون شكر. ولما ابتعدت قليلاً.. ناداها.. لماذا لا يسألها عن اسمها؟ .. ماذا في الأمر... - يا آنســة..ووقفت..وتقدم منها:- آسف.. هل يمكن لي أن أعرف إسمك؟وضحكت قبل أن تقول:- لم لا.. نحن هنا أخوة .. إسمي سعاد...- وأنا رامز... ورفاقي يسمونني العريف.. ألا نتصافح؟وأعطته يدها ضاحكة ثم انسلّت بخفة كما جاءت..سعاد.. عجيب وهذه سعاد أيضاً.. يبدو أن له حظاً مع الإسم ..فقبل أيام قدّمت اللجان النسائية في البلد هدية إلى الحرس القومي من القمصان الصوفية والبطانيات.. قامت بحياكتها فتيات المدينة وكان في كل جيب بطاقة تحمل إسم الفتاة التي حاكتها وعبارة تشجيعية قصيرة.. إنه ما يزال يحتفظ بالبطاقة.. ومدّ أصابعه وتحسّسها وأخرجها ثم أشغل عود ثقاب أضاءت معه الحروف سعاد وهبي وتحت الإسم كانت هذه العبارة: (أرجو أن تكون من نصيب بطل).وأكلت النار العود واختفت الكلمات، فأعاد البطاقة إلى جيبه. أتكون هي؟ لو كانت هي نفسها أفلا تكون صدفةً حلوة؟ والتفت إلى الباب.ولكنه كان مغلقاً..وفي الليلة الثالثة تعمّد أن يبدأ نوبة الحراسة باكراً ليجد مجالاً لدخول المستشفى والسؤال عن الجرحى .. كان الباب مفتوحاً فدخل.. ورآها تحمل صينية عشاء لأحد الجنود فحيّاها... وسألها إذا كان بوسعه أن يزورهم ..فقالت:- لم لا...أريدك أن ترى حسّان.. ليقصّ عليك قصة المعركة، لقد سمعتها منه عشرين مرة، ولن يؤذيني أن أسمعها للمرة الحادية والعشرين.وتبعها..وأمام سرير حسّان المضمّد الرأس وقف كما وقفت هي وضحكا وهما يستمعان إلى الجريح يقول:- إن الأخت سعاد ممرضة صارمة تريد له أن يتمدد كالجثة، وتحرّم عليه التدخين بأخفائها سجائره..وأتيح لرامز أن يلحظ وهي تضحك أن لها أسناناً شديدة البياض وأن لعينيها بريقاً يعكس إرادة لا تردّ.. وشجّعه الجو على أن يسأل:- ولكن ألا توافقني على أنها طيبة.- طيّبة؟ إنها أطيبهن جميعاً.. أكثر طيبة من أمي العجوز.. ما تفتأ تدور بيننا تسقي هذا، وتطعم ذاك، وتلبي أجراساً تقرع في كل الغرف، فإذا وجدت لحظة للراحة جلست قريباً من الباب وشغلت نفسها بالحياكة.- حياكة؟وتذكّر القميص ومدّ يده فحل أزرار معطفه السميك وسترته، وكشف عن قميصه الذي يرتديه، واقترب خطوة منها وقال:- أتعرفين هذا القميص؟- أوه.. أكان من حظّك؟- ألا أستحقه؟ إنني أحتفظ بالبطاقة ... لأتذكّر دائماً مسؤولية البطولة...واستدعاها جرس ملحاح، فتركته وحسّان الذي سأله عن سيجارة أقسم ألاّ يدخّنها إلاّ إذا سمحت له...ومضى أسبوعان، وتماثل الجرحى للشفاء فغادروا المستشفى إلاّ واحداً نقل إلى مستشفى آخر. وانتهت مهمته في الخفارة. وعاد إلى عمله في تدريب طوابير الفتيان على حمل السلاح. وكان يستقبل طابوراً ويودع غيره حتى إذا هبط الظلام حمل بندقيته ومضى إلى الغرفة الوحيدة التي يتألف منها بيته.. وعندها يجد وقتاً ليفكّر بها...لقد انقضى أسبوع ولم يرها خلاله فأين عساها تكون... لماذا يحس بأنه مدفوع إلى الاهتمام بها؟ مدفوع إلى محبة القميص الذي حاكته؟.. ولقد انكشفت بالأمس شيئاً، فحين قام يلبس في الصباح، حمل القميص في يده وراح يتأمله .. لقد عاش أياماً بين يديها وهي تبنيه غرزة على غرزة دون أن تدري لمن يكون.. لعلها رسمت في ذهنها صورة للرجل الذي سيرتديه، وهي بالتأكيد قد اختارته أن يكون طويلاً عريض الكتفين..رجلاً تعلٌّ عليه أمل البطولة.. والتفت إلى نفسه في المرآة المعلّقة على الحائط .. وتحسس ذراعيه المفتولتين: وضحك على سخفه وهو يتأمل نفسه. ولكن أي ضير في أن يكون سخيفاً فيرفع مثلاً القميص ويشمه طويلاً ويقبّله أيضاً؟..ورآها في الطريق. لم تكن في ثياب الممرضات.. فاعترض طريقها قائلاً:- كدت لا أعرفك فما كنت يوماً إلاّ بيضاء..وأعطته يدها فصافحها وقالت:- لقد غادرنا المستشفى. إنني لا أجد ما أفعله اليوم. وأنت ماذا تفعل؟- طوابير تدريب في النهار، خفارة في الليل، ولا شاي! !ورنّت ضحكتها الفضية.. وضبطته يتطلّع إليها فاحمرّت .. وهمّت بأن تمضي وبسرعة قبل أن يضعف أمام، خجله سألها شيئاً:- أرجو ألاّ تظنيني وقحاً... هل أستطيع أن أراك في مكان ما...؟- بلدتنا أصغر من أن تتسع لنا..- ولكننا إخوان سلاح.. إنني أدرّب طوابير من الجنسين على استعمال البندقية.. تعالي إلى نادي الميناء سنتحدّث قليلاً بعد أن أفرغ من التدريب...واتفق على حضورها في الثالثة، ثم انهمك في تدريب طابور ناعم كيف يقف وقفة لا ترتعش تحت بندقية ثقيلة.. ولمحها تدلف.. فتجاهلها حتى انتهى وصرف تلميذاته واتجه يحييها ويقدّم لها كرسياً ويسحب لنفسه آخر..- ألست متعباً؟..- وأينا لا يتعب؟.. ولكني بعد أن عرفت ما يدور في مستعمرات الصهاينة من تـأهب وتعبئة تمنيت لو كان يومنا ستين ساعة.. إن أمامنا عمليات رهيبة.- أخائف أنت؟..- متحسّبٌ ..لسنا في موقف هيّن.. يخيّل إليّ أن اليهود زرعوا مواسمهم أسلحة، وملأوا بطون مستعمراتهم بها، لقد اكتشفنا أشياء كثيرة...- هل ذهبت بنفسك؟..- كثيراً قبل أن يتوتّر الموقف.. أما الآن فلا أستطيع، إنني على لائحتهم السوداء.. ورآها تتأمله ثم انفرجت شفتاها وتألّقت في عينيها تلك النظرة الحازمة...- أتدري لقد بتّ أصدّق أنك بطل؟..- بطل.. لا أظن.. ولكن بطاقتك توحي إليّ بأن أكون...- أما تزال محفتظاً بها؟...- هي ذي.وأعطاها لها، ولما مدّ يده ليسترجعها ضغط على يدها قليلاً ثم أرخاها، وتركها تداري خجلها متطلّعاً إلى البحر الأزرق أمامه.كان الوقت ربيعاً، وربيع فلسطين بحر أزرق تتهادى عليه أشرعة المراكب البيضاء نهاراً، وترصّعه فوانيس قوارب الصيد ليلاً، وبساتين برتقالٍ يكثّف عبقُها الهواء.. وفي ربيعها ذاك عرف شيئين .. الحب والحرب.، وكان الأول يعطي معنى للثاني، فالحرب ليست عدواً يقتل لشهوة، إنما هي حق حياة للأرض التي يحب، والفتاة التي يحب، إن فلسطين ليست بحراً ومراكب صيادين، وليست برتقالاً يتعلّق كالذهب، وليست زيتوناً وزيتاً يملأ الخوابي.. إنها عينا سعاد السوداوان أيضاً. وفي عينيّ سعاد رأى خير فلسطين كله، رأى ظلّ بيت سعيد له. وزوجة تنجب له أبطالاً صغاراً وتجعل من حبها معنى لوجوده.ومع كل إطلالة صباح .. كان يستقبل خيالها.. جنباً إلى جنب مع أنباء المعارك في صحف الصباح. ..معركة القسطل، هجوم قومه من مثلث الرعب على قرى الأعداء.. غاراته وإخوانه على المصفّحات اليهودية المتسلّلة على طريق حيفا – عكا نهاريا، بطولة قومة على سلمه، في كل مكان...ثم كانت كارثة حيفا..لن ينسى ذلك المساء..كان مشغولاً بصفّ التدريب..حين التفت إلى البحر فإذا بعشرات المراكب المحمّلة بالناس.. وتجمهر أهل مدينته على السور وفي منطقة الميناء يستطلعون .. كانوا على علم بالمعارك التي تدور في حيفا، وكانوا يدرون أن سلطات الإنتداب قد مكّنت الصهاينة من المراكز المحصّنة سراً، في حين ادّعت أنها لن تتخلّى عن المدينة إلاّ بعد فترة الانتداب بشهور، ولكنها فجأة أعلنت عن اضطرارها لإخلاء المدينة.وانصبّ الهول من الكرمل على العرب الذين يعيشون في السفوح، ومهّدت السلطة لحالة ذعر بحرب إشاعات فتحت معها الميناء، وأطلقت سفنها تحمل كل راغب في رحيل، فتكدّسوا فيها والنار تلفظ هولها عليهم من الجبل..ولفظتهم السفن على ساحل عكا.. كتلاً بشرية.. يئن بعضها من الجروح وبعضها من الجوع، وبعضها من الفزع.وامتلأ بيوت مدينته، مساجدها، أديرتها، ساحاتها بهم..وتحمّلت مدينته الصغيرة عبء تدبير طعام ومأوى لهذه الآلاف..وفي تلك الليلة رأى سعاد مع عشرات المتطوعات يستقبلن الجرحى في الميناء ويوزعنهم على المستشفيات والبيوت.. وبدأت حرب الإشاعات تلعب لعبها في الأعصاب...استيقظ في صباح اليوم التالي على قرع شديد على باب غرفته، وفتح الباب وذهل إذ رآها..كانت تبكي..قالت له أن أخاها قد دبّر شاحنة حشد فيها كل ما يُحمل ثم وضع فيها زوجته وأطفاله ونفسه ليرحلوا للبنان... وأن عشرين أسرة من حيّها قد فعلت مثله...وقد فرض عليها أن تصحبهم فرفضت، وقاومت فضربها، فلم تجد أمامها إلاّ الفرار.إنها آخر من يسافر...وأذهلته المفاجأة .. لم يدر ما يقول لها وظلّ صامتاً، ولما قرعت صدره بقبضتها سأل: - هل فعلت هذا بسببي؟وانفجرت في وجهه:- لا ليس بسببك.. صحيح أنني أحبك... ولكنك لست كل شي؟قالتها وانصرفت..وفتح الباب وخرج إلى المدينة..عشرات السيارات كبيرة وصغيرة، محمّلة وفارغة، أطلقت دواليبها للريح.. وخلّته مذهولاً.. لا يدري هل يبكي، هل يصيح، هل يقذف هذه السيارات بحجارته؟..وفي أسبوع فرغت المدينة إلاّ من شاكي السلاح.. ومن بضع ممرضات موزّعات على المستشفيات الصغيرة، ومن النازحين إليها من حيفا أو القرى، ولم يعد يجد وقتاً للقاءاته بسعاد.. فأعداؤه في الشمال وفي الجنوب يتربصون الفرص ليطبقوا على المدينة.. كان في النهار يتسلل إلى القرى يجمع البنادق والذخيرة، أما لياليه فللحراسة مع خمسة غيره يقبعون وراء المتاريس المقامة على ظهر مصنع للسجائر تعطّل فيه العمل، كان لا بدّ للمدينة من الصمود حتى تبدأ معركة أخرى على مستوى جيوش بعد انتهاء فترة الانتداب..هذه هي مهمته التي رسمتها اللجنة القومية للمدينة.. وحين كان يجد وقتاً يسترخي فيه، كان يجد وقتاً ليفكّر بسعاد وليتساءل كيف تراها تعيش. وتحت أي ظروف. وصعق مرة حين رآها أمامه...كانت تلتف بمعطف وقد حملت صرّة كبيرة..وحار كيف يتلقاها ولكنها هوّلت عليه الأمر حين فتحت الصرّة وقالت موجهة حديثها لكل الرفاق:- لقد خشيت اللجنة أن تفرغ مؤونتكم فتطوّعت لحمل هذه الأشياء...وفتحت الصرّة على خبز وسجائر وحلوى، وفتحت عينيها على نظرة استقطبت كل شوق العالم. أثارت انفعاله لدرجة ودّ معها لو يضمها أمام رفاقه جميعاً..ولقد رأى من حقه وحده أن يمشي معها قليلاً وهي عائدة، وأن يمسك بأطراف أصابعها بيد مرتعشة، ثم يرفعها إلى فمه دون أن يجد ما يقوله غير أن يتوسّل إليها ألاّ تعاود مثل هذا الجنون، ثم ابتعدت ووقف يرقبها حتى ابتلعها أحد المنعطفات.وتكرّرت زياراتها.. لم تكن تلبث أكثر من دقائق ولكنها كانت كافية لتشحن أحاسيسه وانفعالاته بشكل يتعبه ويسعده معاً...وإلى أن كان الأسبوع..واشتدت المعركة وجأرت النار طيلة ليلتين ونهار كامل وقسم من النهار الثاني...كانت سيارات الأعداء المصفّحة تتجه على الطريق العمومي إلى نهاريا.. وكان عليهم أن يقطعوا عليها الطريق بالمدافع المبثوثة على الدور القريبة من الطريق...ولم تهدأ المعركة إلاّ في الثالثة من عصر اليوم التالي، فانقضّوا على المتاريس، واستلقى بعضهم على الأرض، ونزل هو يغتسل من حنفية الحديقة تمهيداً لزيارة للمدينة يستفهم فيها عن خطة الحرس القومي في سحب السيارات المصابة إلى داخل المدينة...وكان الصابون يغمر وجهه حين انبعث صوت رصاصة فثانية، فسارع يزيل الصابون عن عينيه حين ثقب أذنيه صوتها..والتفت إلى باب الحديقة فرآها تمرق منه.. وصرّتها بيدها، أما الأخرى فكانت على صدرها.. لم يصدّق أن بها شيئاً وقد كانت واقفة على قدميها، ولكنها ما لبثت أن ارتمت عليه، وبدأ الدم يندلق من صدرها، فسد جرحها بيده، ونادى على رفاقه الذين سارعوا بالقاء ستراتهم لتمتص دمها المسكوب.وفتحت فمها لتقول شيئاً، ولكن الحشرجة خنقت كلماتها.ثم انتهى كل شيء بشهقة!...حدث هذا بسرعة لم يصدّقها.. دقائق وضعت حدّاً لكل شيء، فكيف، كيل لم يجمّد الزمن.. كيف تركها تموت؟ كيف لم تنتفض تحت قبلاته، نداءاته الملتاعة.. كيف لم ترتعش تلك الجفون وهي تشرب كلمات حبّه الأولى..ماتت... كيف ورائحة شعهرا في أنفه ما تزال.. وحرارة يدها تأكل كفّه، وطعم شفتيها الرطبتين على شفتيه. لم يكن في نظرتها موت، في عينيها اللتين تتحدّيان أي شيء..فيهما حب ووعد بالحياة...ويفرك عينيه، يطرد الكابوس ويشدّ على الغليون الذي قدّمه له إبراهيم فلا تنغرز أظافره في راحته وهو يقرأ في عيون رفاقه..أجل ماتت، وانتزعناها منك، ودفنّاها على الرابية هناك، وزرعنا على قبرها علماً، وكرّسناها بطلة..كانت تحبّك فباتت رمزنا جميعاً.. إبراهيم، ووديع وصالح، وأحمد وعبدالله....خطّ أصفر نحيل وبضع نجيمات .. ولا شيء إلاّ العتمة وأطراف السجائر المتوهّجة، وهم أمام المتاريس بلا نوم أو طعام أو شراب...وانقضت الليلة هادئة إلاّ من مناوشات في الفجر، ثم سكت كل شيء، واستسلمت الرؤوس المتعبة إلى يوم نوم يفسد الجوع وتوقع الخطر...ومع الفجر فرك عبد الله عينيه وسأل وهو يتطلّع في الصناديق الخشبية المركونة جانباً:- أما من شيء نأكله؟...وردّ وديع:- أجل هناك جوعنا..وسكت...وهناك أرغفة سعاد.. لماذا لا يقولونها، وكانت ملوّثة بدمها، فأي أدام تعس لخبزهم؟..لقد بدأوا يجوعون بشكل لا يطاق، وباتوا عاجزين حتى عن الوقوف..وكان رامز يشعر بأن الظروف تتكاثف لامتحانه بشكل مذل، وبأنه ما من واحد من رفاقه سيجرؤ على أن يفكر في الأرغفة إلاّ إذا عرضها هو...وغطّى عينيه بيديه، أهناك تعاسة بعد تعاسة اضطراره إلى أن يطعم دمها رفاقه؟..وتطلّع إلى أخوانه. كان عبد الله مستلقياً على بطانية، وكذلك صالح، وكان أحمد جالساً على كيس من الرمل وهو يضغط بطنه بيديه...إن واحدهم مستعد لأن يأكل جثة كلب، ولكن يداً منهم لم تمتد إلى الأرغفة المعمّدة بالدم.. لقد كان عليه أن تأتي البادرة منه.. ماذا يقول لرفاقه.. خذو فقد وهبتنا سعاد الخبز والأدام...وأطرق قليلاً، ثم تحامل على نفسه ووقف.. إذا كان هو يستفظع الفكرة فإن عليه أن يمضي إلى المدينة ليتدبّر لهم ما يأكلونه...وحاول أن يقف ولكنه كان ظاهر الخور.. وأدرك رفاقه ماذا يبغي من وراء ذهابه للمدينة، إن أية رصاصة ستصطاده كعصفور صغير، فالمنطقة الخلاء بين مركزهم والعمران كبيرة ومكشوفة، ومرور سيارات مصفّحة تحمي نفسها بإطلاق الرصاص في كل الإتجاهات متوقع في أية لحظة، فأمسك صالح به من كتفه واضطره إلى الجلوس...فجلس لتتوثّب في رأسه طيوف معركة بين جوعه وجوع رفاقه وبين الأرغفة الحمراء... كانت ما تزال مكوّمة في الزاوية، مصرورة كما حملتها سعاد.. إن التجربة شيء يجرح أعصابه ولكن شراء حياة خمسة، يجب ألاّ يخضع لإحساسه الرهيف...ولكن أي ثمن سيدفع .. أين الأعصاب التي تحتمل أن ترى يداً تمتد لتمزّق رغيفاً وأسناناً تدور لتلوك خبزها مغموساً بدمها.. وأغمض عينيه .. لا، هذا لن يكون ..ولو ماتوا جميعاً.. إنهم لا يفضلونها بشيء.. وماذا لو ماتوا..تموت وهي تحمل خبزهم، ويموتون لأنهم لن يمسّوا خبزاتها، فلا يشتري موتُها حياتهم. يرفضون خبزات الفداء.. وقد امتدّت إليهم ممتحنة إنسانيتهم.. أو إنسانيته هو على الأقل.. فما ذنب هؤلاء ليجوعوا..؟ ولكن ماذا لو جاعوا..؟ ليحسبوا ألاّ خبز هناك.. إنهم على كل حال لا يتطلّعون إليه. لقد عفّوا وأقنعوا أنفسهم بأن ينتظروا رزقاً غير هذا.. أو يموتوا.. ويموت معهم ثأرها..ثأرها؟ صحيح كيف ينسى ذلك...؟ كيف يختار أن يموت جوعاً ككلب ويميت معه خمسة؟ حقاً إن كثرة تعاملهم مع الموت قد سلبته تلك الصورة المستفظعة، ولكن مهما كان له الحق في اختيار الميتة التي يشاء، فلن يختار أن يموت جوعاً. سعاد نفسها ترفض ذلك لبطل...وارتعش بألم...لقد اكتشف أنه في الليلة الأخيرة قد فكّر في جوعه أكثر مما فكّر في سعاد. لقد عطّلت غريزة الجوع كل أحاسيسه الأخرى. يا إلهي ما أفظع التجربة..ونادى إخوانه ففتحوا عيوناً تكاد من إعيائها لا تنفتح، سيدعوهم واحداً واحداً..إبراهيم ووديع وصالح وأحمد وعبد الله، وسيلتفّون حوله في حلقة .. ثم ينهض هو ويحضر الأرغفة.. وحين تمتد يده ليفكّ الصرة، سيحكي لهم قصة عتيقة تعرفها هذه الأرض. ..ويعيها ناسها... قصة افتداء الحياة بالجسد والدم..ثم يحمل خبزاتها وبكل الجو الشعائري الذي يقدّم به كاهن كنيسة شرقية خبز للمسيح سيقول لهم:كلوا هذا هو جسدي.. وهذا هو دمي فاشربوا... وسيأكل هو من الأكسير أيضاً.. وسيستقر في شيء من سعاد في أحشائه.. شيء منها..أجل كيف لم يفطن إلى ذلك قبلاً.. شيء ما يفتأ يتململ ويضج طالب ويذكره أن عليه أن يفعل شيئاً لهذا الجسد الثانوي في طرف الحديقة..وقام متحاملاً على نفسه إلى الزاوية تتبعه عشر عيون شعر بنظراتها توثق رجليه.. فتناول الصرّة بيد ترتجف.. وفتحها وأدنى الأرغفة من شفتيه ثم اقترب من رفاقه وقدّمها راكعاً وقال: كلوا.. إن سعاد لا ترضى لنا أن نموت جوعاً..وغامت الدنيا في عينيه، ووقع على الأرض فاقد الشعور!