لم اكن احدثها ..لم تكن تحدثني و لم يتجاوز عدد كلماتنا معاً خلال سنة :الخمسين كلمة, و كل الكلمات كانت :
مرحباً...أهلاً....كيف الحال؟ الحمد لله
و رغم ذلك,اتخذت ذلك القرار....و قادني إحساسٌ غريب إلى الزمان و المكان الموعودين
غادرتُ منزلي عندما غادرت الشمس السماء,وصلتُ,جلستُ على المقعد الرخامي أنتظر...
أن يلتقي عقربا الساعة عند الثانية عشرة , فموعدنا في الثانية عشرة.
ارتفع صوت فيروز من أحد البيوت القريبة : ( بأيام البرد, بأيام الشتي , و الرصيف بحيرة ,
و الشارع غريق...)
غطى الضباب الأرض و الغيوم غطت السماء, بقيَتْ سبع ساعات ,
أحسستُ بأن فعلي هذا فيه ضرب من الجنون أو كثير من الغباء...لماذا أنتظره,
اليوم,هنا...
أبعدت صوت عقلي ...أخرجت من محفظتي قلماً لم يبقَ فيه إلا قليل من الحبر,
و أخذت أخط على الرخام بضع كلمات, كيما أقتل الوقت.
بقيت خمس ساعات ,مرت أمام وجهي نسمات ازدادت قوة و برودة,
و تحوّل صوت سكونها إلى صفير حاد و قل عدد المارة و مرت الثواني و الدقائق ,
و أغنية فيروز تنتهي ...لتبدأ من جديد (ونطرتك بالصيف...نطرتك بالشتي).
بدأ كانون يرشقني بدموع باردة تخترق الجلد و العظام.. لكن ,صبراً..بقيت الآن ...ثلاث ساعات.
صارت الغيوم تمزق نفسهاو حذت روحي حذوها... لم يبقَ الكثير ,إنها ساعة واحدة!
الظلام دامس..و قد لا يراني, وحين ستأتي لن أستطيع أن أركض إليها لأني أحس بالشلل...
جسدي متجمد, و يدي ما عادت قادرة على الإمساك بالقلم.....
قلبي يحترق و أشعر بصوت نبضها في رأسي...لو أنه يعانق الثلج...
أحسست مرة أخرى بأنني لست سوى شاباحمق, فهي لن تاتي...
ليس لأنها لاتعرف بأمر الموعد
- اخترعتُه- بل لأنها لاتعرف بأني أعرف بأمر هذا الموعد, و بأني سأكون هنا , أنتظرها,
أجل... لم نتفق...لكن موعدنا هنا في الثانية عشرة
مسحتُ ندف الثلج عن ساعتي بيد فقدت الإحساس ... بقيت دقيقة واحدة و يلتقي العقربان عند الثانية عشرة ...
و أغنية فيروز مازالت ساهرة معي, تتكرر و تتكرر : ( و تنطر عالطريق...)
لم يبقَ إلا ثوان ,
من بعيد سمعت صوت دقات الساعة يتحدى صوت دقات قلبي و صوت فيروز و صفير الرياح
و عند الدقة الثانية عشرة سيكون هنا... و ستهديني وردة حمراء تبث الدفئ في أوصالي,
و الفرح في عيوني
و كعادتنا لن نتكلم , ربما سيقول لي : مرحباً ..كيف الحال ؟
و سأجيبها : الحمد لله و كعادتنا سيرحل كلٌّ في طريقه..
بدأت أحصي دقات الساعة:
عند الأولى: نظرت إلى الظلام, عند الثانية تحسست مقعد الرخام, عند الثالثة تركت القلم ,
عند الرابعة نظرت إلى السماء , عند الخامسة سقطت بقربي ورقة شجر,
عند السادسة تراءى لي في ضوء الشارع شبح يقترب,
عند السابعة حاولت الوقوف و لم أستطع ,
عند الثامنة حاولت أن أنادي فخانتني حنجرتي ,
عند التاسعة سمعت من أغنية فيروز : ( و تدبل بالشتي ) و عند العاشرة أغمضت عيني ,
و عند الحادية عشرة صمتت فيروز و ضجيج قلبي ... و عم السكون ......
و لم أسمع الدقة الثانية عشرة
في أحد ليالي كانون, على مقعد رخامي, استقلت جثةشاب,
كان هبجانبه قلم أفرغ من جوفه آخر القطرات ليكتب آخر الكلمات :
" لقد اعتقدت بأنني.... وجدت إلى قلبك السبيل
و قد اعتقدت بأنني .....وجدت لحبك ألف دليل
و في كل لحظة قدمت لك جزءاً من روحي و ما بقي إلا القليل
لأبقى على قيد الحياة
لأنتظرك..
أو لأنتظر الرحيل"